القضايا المنهجية والفنية ، الأدب و الغرابة
القضايا المنهجية والفنية ، الأدب و الغرابة
يتبنى عبد الفتاح كيليطو في كتابه الأدب والغرابة البنيوية السردية القائمة على التفكيك والتركيب والتحليل المحايث وتحليل الخطاب. وسياق هذا الكتاب هو فضاء العالم العربي إبان فترة السبعينيات التي ظهرت فيها البنيوية عن طريق الترجمة والمثاقفة والاحتكاك بالآداب الغربية و مناهجها النقدية. وكان من الطبيعي أن يتأثر النقاد العرب بالمناهج النقدية الغربية الحديثة ويحاولون تطبيقها على الآداب العربية سواء القديمة منها أو الحديثة. وإذا كان كمال أبو ديب قد اهتم ببنية الشعر العربي القديم والجديد، فإن عبد الفتاح كليطو اهتم بالثقافة العربية الكلاسيكية وخاصة بنية السرد والحكاية في شتى تقاطعاتها وأجناسها.
ومن المعلوم أن البنيوية تربت في أحضان اللسانيات مع فرديناند دوسوسير و البنيوية الوظيفية( أندري مارتينيه)، والگلوسيماتيكية (هلمسيلف)، وحلقة براگ( جاكبسون، تروبتسكوي)، والتوزيعية (هاريس وبلومفيلد)، والتوليدية التحويلية( نوام شومسكي)، كما تربت في أحضان الشكلانية الروسية والنقد الفرنسي الجديد . ويعد كلود ليڤي شتروس ورومان جاكبسون من البنيويين الأوائل الذين طبقوا المنهج البنيوي اللساني على الشعر ولاسيما قصيدة القطط Les chats للشاعر الفرنسي بودلير في منتصف الخمسينيات لتعقبها تحليلات بنيوية حول السرد والقصص المصورة والحكايات الشعبية والبوليسية مع رولان بارت وكلود بريمون وتودوروف وجيرار جنيت. وستتحول البنيوية بعد ذلك إلى مقاربة سيميائية مع گريماس و جوليا كريستيڤا وفليب هامون وجماعة أنتروڤيرن ومدرسة باريس و أتباع بيرس. وقد استلهمت البنيوية الفرنسية الإرث الشكلاني وجماعة تارتو السيميائية بموسكو عن طريق الترجمة والاطلاع الثقافي والتبادل المعرفي.
ولقد استفاد الدارسون العرب من المنهج البنيوي في أواخر الستينيات وعقد السبعينيات من خلال الاطلاع على كتب تعريفية ككتاب محمد الحناش "البنيوية اللسانية " ،وكتاب فؤاد أبو منصور"النقد البنيوي الحديث"، وكتاب فؤاد زكريا "الجذور الفلسفية للبنائية "، وكتاب صلاح فضل "نظرية البنائية في النقد الأدبي"...
هذا، وقد غدا النقاد العرب يطبقون المنهج البنيوي على الأدب العربي انطلاقا من مرجعيات نقدية غربية متنوعة كما فعل موريس أبوناضر وخالدة سعيد ويمنى العيد وكمال أبوديب وصلاح فضل وعبد الكبير الخطيبي وجمال الدين بن الشيخ وجميل شاكر وسمير المرزوقي وعبد السلام المسدي وحسين الواد وسيزا قاسم...
وإذا كان أغلب الدارسين يتعاملون مع المنهج البنيوي بطريقة حرفية آلية قائمة على الإسقاط الخارجي حتى يصبح العمل النقدي تمرينا منهجيا آليا يسمو فيه المنهج على حساب النص، إلا أن عبد الفتاح كيليطو يتعامل مع المنهج البنيوي بذكاء خارق حيث يخضع المنهج للنص ويستنبط من داخله دلالات عميقة لايمكن أن يتصورها القارئ الضمني والفعلي على حد سواء .
وبرتبط المنهج البنيوي لدى كيليطو بالوصف والتفسير والتأويل من خلال استقراء اللغة في سياقاتها النصية مع تنويع المنظورات والتصورات في التحليل والمقاربة حيث يعتمد في إحالاته البيبليوغرافية على الشكلانية الروسية والبنيوية الفرنسية والسيميائيات والفلسفة الغربية وجمالية التلقي( ياوس). ولكن هذه المرجعيات يتحكم فيها الكاتب بنوع من المرونة و التلميح الموجز والتصرف المنهجي.
ويبدو من خلال قراءتنا للكتاب أن كيليطو يوجز في الكتابة اختصارا وتكثيفا؛ لأن الكلام كما هو معروف ما قل ودل. وعلى الرغم من هذا الإيجاز غير المخل الذي يظهر واضحا في صغر حجم الكتاب إلا انه كتاب دسم مليء بالمعارف المنهجية والمعلومات المتعلقة بالآداب الغربية والعربية.
وعليه، فإننا نشيد بالكاتب تنويها وتقديرا كبيرا، ونحييه تحية إجلال وإكبار لأنه خدم الثقافة المغربية ونقدها الأدبي، و أعاد الاعتبار للثقافة العربية الكلاسيكية، وفتح باب التراث العربي الجمالي والفني للدارسين العرب لقراءته من جديد على ضوء مناهج تأويلية جديدة تستقرى الداخل النصي تأويلا وتفسيرا وتفكيكا. وهذا ما قام به أتباعه وتلامذته كالباحث السعودي عبد الله الغذامي والمغاربة محمد مفتاح وسعيد يقطين ومحمد مشبال في كتابه" بلاغة النادرة"، والباحثة المصرية نبيلة إبراهيم، والعراقي عبد الله إبراهيم، أي البحث الجاد في أدبية السرد العربي القديم و الثقافة العربية الكلاسيكية وتفكيك جميع أجناسها من أجل تركيب تاريخ للأدب العربي بمفهوم علمي دقيق. ويلاحظ أيضا أن بعض نصوص كليطو مختصرة وموجزة تتطلبها المقاربة البنيوية التي تكتفي بالنصوص القصيرة وهذا هو شأن التحليلات البنيوية والسيميائية الغربية( جماعة أنتروڤيرن مثلا).
وقد يبدو أن منهجية الكتاب متجاوزة وأن المعارف التي يحملها أصبحت بديهية، إلا أن الكتاب مازال معاصرا يعيش معنا ويتجدد كل يوم في الزمان والمكان باختلاف القراء، و ينبغي لكل دارس ومبتدئ في الآداب أن يعود إليه من أجل استيضاح الأمور والمفاهيم الاصطلاحية الأدبية والنقدية قبل الشروع في أي بحث أو عمل دراسي ونقدي سواء أكان بحثا شخصيا أم أكاديميا .
و تمتاز مقاربة كيليطو النقدية بلغة وصفية رائعة تعتمد على المساواة بين اللفظ والمعنى والمتعة اللفظية وشاعرية التحليل وتنوع السجلات المعجمية والنقدية بتنوع المرجعيات التناصية، كأننا أمام عمل إبداعي محكم يحقق للقارئ الضمني والفعلي متعة ولذة نادرة كلذة النص التي تحدث عنها الفرنسي رولان بارت.
وفي الأخير، إن كتاب "الأدب والغرابة" نموذج نقدي رائد في عالمنا العربي في دراسة الثقافة العربية الكلاسيكية؛ لأنه يستند إلى آليات التفكيك والتركيب والتأويل وتفسير النصوص من الداخل واستكناه المضمر من خلال المصرح بأسلوب وصفي ممتع رائع حيث يصبح المنهج في خدمة النص وليس العكس.
السعيد موفقي