وبذلك فالنقط المذكورة أساس في بلورة البداية الصحيحة للنقد، لكن النقد العلمي الدقيق في نظر د.إحسان عباس لن يتولد إلا بظهور حركة فكرية أو فلسفية وفي ذلك يقول:" وحين كان الإحساس بالتطور يتصل بأثر فكري – كلامي أو فلسفي- كان النقد ينال حظا غير قليل من العمق، لأن ذلك الأثر الفكري كان كفيلا بتنظيم الإحساس وتوجيهه في منهج متميز المعالم، فأما مجرد الإحساس وحده فإنه كان يجعل النقد عند أذكى النقاد التماعات ذهنية أو لمحات سريعة".(52) والنتيجة الحتمية التي يصل إليها إحسان عباس بعد هذا العرض تتمثل في أن توفر التأليف إلى جانب الإحساس بالتطور والتغير يؤدي إلى إعطاء ممارسة نقدية فعلية على يد الأصمعي (212 هـ) وفي ذلك يقول: "كان الأصمعي – فيما أعتقد – بداية النقد المنظم، لأنه أحس ببعض المفارقة التي أخذت تبدو في أفق الحياة الشعرية (53)و السبب في ذلك يرجع إلى تميزه عمن سبقه بالعديد من المميزات " فهو وإن شاركهم (العلماء) في كثير من النظرات الساذجة من مثل الالتفات نحو أغزل بيت وأهجى بيت وما أشبه ذلك من أحكام، قد هداه بصره النافذ إلى مواقف نقدية واضحة، ونكتفي هنا بثلاثة مواقف منها:
أ- الفصل بين الشعر و الأخلاق...
ب- الفحولة...
ج- العناية بالتشبيه.."(54)
هكذا نصل إلى أن ما قبل الأصمعي يشكل مرحلة نقدية غير منظمة، ولا يجب أن نعتد بها، ولا نقف عند حدودها، وأن النقد الحقيقي لن يظهر إلا في أواخر القرن الأول الهجري مع الأصمعي، فهو في نظر د. إحسان عباس النواة الأولى لظهور النقد المنظم في تاريخ الأدب العربي.
فمع الأصمعي توفرت الشروط التي يعتبرها د.إحسان عباس أساسا لوجود النقد وهي : "التأليف و الإحساس بالتغير والتطور ، وفي غيابها لا يمكن بأي حال من الأحوال البحث عن نقد منظم.إنما نتحدث عن لوحات نقدية طابعها شفهي وميزتها الذوق الفطري الفج، وليس ذلك الذوق الناضج المجرب للعملية الإبداعية والقادر على تحليل ظواهرها وتفسيرها و الوقوف عند جزئياتها.
ما الذي حمل د.إحسان على هذا الموقف ؟ لماذا اعتبر الأصمعي بداية فعلية للنقد؟ ما الهاجس الذي أرق د. إحسان عباس وهو يعالج قضية نشأة النقد؟.
تقويم للطروحات السابقة:
بعد هذا العرض لقضية نشأة النقد العربي القديم انطلاقا من طروحات متعددة، تتفق أحيانا وتتمع السلامةن أخرى، استطعنا أن نكون صورة مجملة عن موقف الباحثين المحدثين من البداية الأولى المفترضة للنقد العربي القديم.
فإذا كان طه أحمد إبراهيم يؤكد أن النقد العربي القديم نشأ نشأة عربية صرفة، متعايشا مع الشعر، فهو ابن الجزيرة العربية الممتدة في التاريخ إلى العهد الجاهلي، انطلاقا من مجموعة من الأقوال المأثورة ذات الطابع النقدي الساذج الفطري الأولي التي ورثت عن العهد الجاهلي، فإن د. محمد مندور يؤكد على هذه العروبة للنقد أيضا، ويؤكد كذلك على التعايش المتواجد و المفترض بينهما، ولكن يختلف عن طه أحمد إبراهيم في كونه يتناول المسألة في بعدها الموضوعي البعيد عن التعصب، والنظرة الإقليمية الضيقة، بل يعبر عن قومية معقلنة عكس ذ. طه أحمد إبراهيم الذي عبر عن نزعة قومية حامية هدفها إثبات التميز للذات العربية في مواجهتها للغرب.
هكذا، نجد د. محمد مندور قد غض الطرف عن المرحلة الممتدة من العهد الجاهلي إلى أواخر القرن الثالث باحثا عن النقد المنهجي، متجاوزا لتلك الأفكار النقدية الشفهية، علما بأن معظم تراث الأمة العربية كان ينقل شفهيا، وقد يصاب بطريقة أو بأخرى بنوع من التحريف والزيادة و النقصان. ولن يجد د. محمد مندور ضالته إلا في القرن الرابع الهجري.فكانت بذلك الطريقة التي سلكها لدراسة تراث النقد العربي، قد رسخت قيما قديمة " مقدسة" في مجال الأدب العربي أكثر مما سلطت أضواء على الاتجاهات والتيارات الكفيلة بإغناء محاولات التجديد الراهنة.(55)
شيء تجاوزه د. محمد غنيمي هلال حين نص أن النقد لن يظهر إلا بظهور التفكير الفلسفي. وما دام التفكير الفلسفي قد تأخر عند العرب حتى ظهور المباحث الكلامية مع المعتزلة، فكان طبيعيا أن يتأخر النقد في التراث الأدبي العربي. وقد قاس ذلك بالتراث اليوناني، وعليه يكون نصيب المرحلة الممتدة من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري التهميش. وهو يتفق إلى حد ما مع د. محمد مندور في كونه ينص أن النقد الممنهج لن يظهر إلا في القرن الرابع الهجري. وذلك لاتصاله بالفلسفة وعلم الكلام.
ومع د. إحسان عباس نصادف بداية للنقد العربي القديم. تمثلت في أن النقد الفعلي سيظهر في القرن الثاني مع الأصمعي، وبذلك تكون مرحلة ما قبل الأصمعي لم تعرف نقدا منظما وإنما عرفت لوحات نقدية، يطغى عليها التذوق والانطباع المباشر، وهو الآخر يتفق د. ومحمد مندور و د.محمد غنيمي هلال في أن النقد الحقيقي لن يظهر إلا في القرن الثالث الهجري.
اتفق ذ. طه أحمد إبراهيم و د.محمد مندور على التلازم المفترض فيما بين الشعر والنقد فكأني بهما يقولان لنا مادام لدينا شعر فطبيعي أن يكون لدينا نقد أي أن النقد القديم نشأ منذ أن بدأ الإنسان يعقل ويدرك، ويلاحظ ويميز ويستحسن ويستقبح. وهنا أشير إلى أن الاستقراء التاريخي لحركة النقد الأدبي يؤكد تبعية النقد للشعر في مراحله الأولى، خاصة حين كان النقاد شعراء، ومثالنا في ذلك النابغة، والفرزدق وجرير وغيهم كثير... لكن في مرحلة لاحقة، مع نضج الشروط الموضوعية التي تفترض وجود نقد أدبي يهدف إلى توجيه العمل الشعري وجهة معينة، انطلاقا من طبيعة الثقافة السائدة. سيقع الانفصال بين الشعر و النقد، وسيأتي الناقد اللغوي الشهير ابن سلام الجمحي ليؤكد على ضرورة وجود الناقد المتخصص..
فالدعوة إلى الناقد المتخصص هي الدليل القاطع على الانفصال الذي وقع بين الشعر و النقد. إذ لم يعد الناقد هو ذاك الشاعر، بل هو رجل عالم ملم بثقافة عصره قادر على تقويم العمل الأدبي، وفوق هذا وذاك يمتلك حسا نقديا يؤهله أن يجري نوعا من الحوار مع النصوص، ثم يعرف جيدها من رديئها نتيجة الدربة والمراس.
إن الأحكام التي يصدر عنها الناقد غير المتخصص، هي أحكام ذوقية محضة، يشترك فيها الناقد و غير الناقد.من ثم فهي أحكام يقتسمها جميع قراء الأدب، وليست هي وقفا على فئة دون أخرى، فلا يمكن أن نعدها بحال من الأحوال معلما من معالم تواجد النقد على العهد الجاهلي.
ومن المعالم التي يؤكد عليها الأستاذ طه أحمد إبراهيم وجود النقد في العصر الجاهلي، ويعتذر عن عدم إيرادها د. محمد مندور بحجة أن طه أحمد إبراهيم قد سبقه إلى ذلك، قضية تثقيف الشعراء لشعرهم، تلك العملية التي يقوم بها الشعراء لكي يخرجوا شعرهم في صورة أكثر تأثيرا في الملتقى، هي ممارسة نقدية كما ينص ذ. طه أحمد إبراهيم وفي هذا الصدد نقول:إنه قد خلط بين النقد الأدبي الذي هو عملية قراءة الإنتاج الأدبي قصد تمييز الجيد منه من الرديء، وإزالة الغبار عن غوامضه، وهي عملية يقوم بها ناقد يكتسب حسا نقديا مرهفا وملكة لغوية قوية...وإنتاج الشعر الذي هو عملية تعتمد في الغالب على الشعور والإحساس والتعبير عن المكنونات في غياب الرقابة العقلية الصارمة في غالب الأحيان. فعملية إنتاج الشعر أو ما يسمى في النقد العربي القديم " الصنعة الشعرية "تأتي دوما في البداية ليأتي النقد الأدبي من بعدها قصد تقويمها وإضاءة جوانبها، هكذا فالنقد عملية متأخرة عن إنتاج الشعر وصناعته، فهو لا يكون إلا بعد إنتاج الشعر وعرضه للمستهلك. فلو سألتني متى يبدأ النقد؟ سأقول:بعدما ينتهي الإبداع، أي أنه عملية تأتي بعد عملية إبداعية جاهزة منقحة مزيلة للشوائب، وهذا طبيعي إذ النقد لا يمكن أن يكون قد عرف قبل الإنتاج الأدبي، لأن الناقد لن ينقد في الهواء بل لابد من أثر أدبي يرتكز عليه. ولا نستطيع أن نتصور أن الناقد بدأ عمله في الخيال، كأن نزعم أنهم تصوروا وجود قطع أدبية ثم حاولوا نقدها، إذ أن مجرد تصور أثر أدبي دليل على أن الإنتاج قد سبق هذا التصور ولا يمكن للخيال مهما سما أن يصل إلى مالم يختبره الإنسان أو يسمع به. فالنقد عرف بعد الإنتاج. من تم فالعنصر الذي يركز عليه ذ.طه أحمد إبراهيم ليبين به تواجد النقد في العصر الجاهلي هو عنصر يمس العملية الإبداعية أكثر مما يمس العملية النقدية، إذ لا معنى للنقد إلا بعد تحديد مجاله وموضوعه الذي هو الأدب.
إذا كانت عودة ذ. طه أحمد إبراهيم إلى التراث النقدي بهدف تثبيت عراقة وأصالة النقد العربي لتزكية موقف قومي معين، فإن د. محمد مندور ينغمس في التراث بهدف معالجة النقد المنهجي وفي ذلك يقول:"لكي نظل في حدود الفكرة الأساسية التي يقوم عليها الكتاب، وهي معالجة النقد المنهجي عند العرب".(56)
والأمر لا يختلف كثيرا عن ما دفع د. محمد غنيمي هلال إلى إعادة قراءة التراث، حيث أنه استهدف من وراء هذه العملية البحث عن ما يدعم به المقدمة التي انطلق منها، وهي أن النقد لن يوجد إلا بوجود الفلسفة.
هكذا نلاحظ أن كل واحد منهما قد فسر ظاهرة أدبية بظاهرة أدبية أخرى، دون أن يرجع إلى المعطيات الاجتماعية والسياسية و الاقتصادية التي أفرزتها.
أما د. إحسان عباس فقد كانت عودته إلى التراث لا تخرج في قالبها العام عن ما أرق السابقين له. إذ كان هو الآخر يهدف إلى تأكيد مقدمته التي تنص على أن الشروط الموضوعية لنشأة النقد والمتمثلة في التأليف – أي ظهور التدوين- والإحساس بالتغيير والتطور لن يظهر إلا مع القرن الثاني الهجري، وبذلك يسقط هو الآخر في تفسير ظاهرة أدبية بظاهرة أدبية أخرى.
أما على مستوى المنهج فقد كان منهج النقاد الأربعة هو المنهج التاريخي.فالأستاذ طه أحمد إبراهيم اعتمد المنهج التاريخي الذي يراعي التسلسل الزمني للأحداث من العهد الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري، كما ظهر لنا ذلك في محاضراته.
في حين أن محمد مندور اعتمد أساسا على " تفسير النصوص" يقول: "منذ عودتي من أوربا أخذت أفكر في الطريقة التي نستطيع بها أن ندخل الأدب العربي المعاصر في تيار الآداب العالمية، وذلك من حيث موضوعاته ووسائله ومناهج دراسته على السواء. ولقد كنت أومن بأن المنهج الفرنسي في معالجة الأدب هو أدق المناهج، وأساس ذلك المنهج هو ما يسمونه "بتفسير النصوص"، فالتعليم في فرنسا يقوم في جميع درجاته على قراءة النصوص المختارة من كبار الكتاب وتفسيرها والتعليق عليها...هذا المنهج التطبيقي هو الذي استقر عليه رأيي وإن كنت قد نظرت إلى ظروفنا الخاصة وحاجتنا إلى التوجيهات العامة.."(57)
و الطريقة التي سلكها د. محمد مندور تعتمد في قراءته للتراث والتأريخ له عن مدى الانطباع الذي يخلقه هذا المقروء في نفسه، وفي ذلك يرد على سؤال طرحه عليه فاروق شوشة في حوار أجراه معه نشرته مجلة الآداب: " عند أول عودتي من الخارج كنت غارقا في الدراسات الأكاديمية... ومنهج تدريس الأدب في الجامعات الفرنسية يقوم على ما يسمونه " بشرح النصوص"، فكنا خلال السنوات التي قضيناها بالسور بون نستمع إلى أساتذتنا الكبار وهم يضعون أصابعهم على مواضع الجمال في كل تعبير...فغرسوا بذلك في أنفسنا البحث عن الجمال في تفاصيل العمل الأدبي حتى رسخ في نفوسنا أن الأدب فن جميل قبل كل شيء وأن القيم الجمالية هي التي تضمن للعمل الأدبي الخلود.
وعلى أساس هذا التكوين النفسي الخاص صدرت عن المذهب التأثري في كتبي الأولى مثل:" النقد المنهجي عند العرب" الذي فضلت فيه بين نقاد العرب القدماء التأثريين من أمثال: الأمدي والقاضي الجرجاني...بينما أنكرت جدوى أصحاب القواعد والمبادئ البلاغية والبديعية، كقدامة وأبي هلال العسكري وغيرهما." (58)
في حين أن د. محمد غنيمي هلال و د.إحسان عباس قد تعاملا بالمقص الزمني مع الأحداث النقدية الموروثة فقد أخذا من تاريخ النقد ما يتوافق وطبيعة المقدمة التي انطلقا منها.فإذا وقف الأول عند حدود القرن الرابع الهجري، فإن الثاني مدد خطاه إلى حدود القرن الثاني الهجري. وكل واحد منهما قص المرحلة الممتدة من العصر الجاهلي إلى المرحلة التي صب عليها اهتمامه.
هكذا نخلص إلى أن قراءة كل واحد منهم تنطلق من مفهوم معين للتراث، وإن كان هدفهم واحد، وهو البحث عن بداية النقد، فإن النتائج التي توصلوا إليها اختلفت إذ كل واحد منهم قد توصل إلى نتيجة تتعارض ونتيجة الآخر.فأصبحت بذلك تتراءى أمامنا بدايات للنقد العربي القديم متعددة، وليست بداية واحدة. بدايات تختلف عن بعضها باختلاف العصور الثقافية العربية من جهة، و بغياب التزامن الفكري من جهة ثانية، وبتمع السلامةن المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في كل شخصية من الشخصيات النقدية المختارة.
إن هذه الكتابات تنطلق من هاجس واحد هو:"التأريخ للنقد الأدبي" إلا أن كل واحدة قد تناولت التأريخ من الوجهة النظرية التي تتفق والطرح الأيديولوجي الذي تتبناه...فلأستاذ طه أحمد إبراهيم لم يصدر في تصوره عن تاريخ النقد العربي القديم من فراغ، بل كان هاجس القومية العربية يحكمه، تمثل حين أكد على عروبة النقد في قوله:"والنقد الأدبي عربي محض، أو هو كذلك حتى تمكن ورسخت روحه ومناحيه"(59) إن طرح طه أحمد إبراهيم يكشف عن الظروف التي تحكمت في المثقفين العرب في الأوائل هذا القرن-علما أن الكتاب صدر في 1937-و هي مرحلة حاسمة في تاريخ الأمة العربية، عرفت الزحف الأوربي إلى الشرق العربي سواء عن طريق الاستعمار المباشر المتمثل في احتلال الأرض، أو غير المباشر المتمثل في التدخل في المنشآت الاقتصادية. و لا يخفى على أحد ما يهدف إليه التدخل الاستعماري من ضرب للذات العربية و تبيان انحطاطها و تخلفها و طرح محلها الفكر الإستشراقي عن طريق طمس الهوية العربية و إشعار الأمة العربية بتبعيتها للغرب في جميع المستويات، إضافة إلى ما عرفه التراث النقدي من تشويه و تزوير للحقائق من طرف هؤلاء المستشرقين أيضا.
في هذه الفترة كذلك ظهر الاتجاه العلماني الداعي إلى السير على خطى الغير والتفكير بعقلية الغرب، متناسيا أن للعرب خصوصيات، واختلاف الخصوصيات يجعل من المتعذر الحديث عن نقط الالتقاء والتشابه بين الغرب والعرب وقد حمل لواء هذا الاتجاه العلماني من الأقلام العربية الدكتور"محمد حسين هيكل" الذي دعا إلى العلم الخالص، وترجم العديد من النظريات والأبحاث الغربية كنظرية "كانت" القائلة بانتصار العقل، وإلى جانبه "الدكتور طه حسين" في مؤلفه في الشعر الجاهلي الصادر عام 1926 حيث استخدم منهج الشك الديكارتي في قراءة التراث العربي...
إذن في هذا الجو المفعم بالاضطرابات السياسية و الاجتماعية و الفكرية كان لابد أن تظهر حركة قومية ترد الاعتبار للإنسان العربي وللذات العربية، ومن العوامل التي أفضت إلى قيام هذه الحركة في مطلع القرن العشرين:
*عوامل تاريخية: تتصل بطبيعة الحس الزمني و الحرص على وصل الحاضر بالماضي و المفاخرة بمآثر الأجداد واعتبارها جزءا من الذخيرة الروحية الواحدة، إذ كان السؤال المطروح: كيف نحيي التراث ؟ وكان الحوار في هذا الصدد هو حوار بين "الماضي" و"المستقبل" أما الحاضر فغير "حاضر" ليس فقط لأنه "مرفوض" بل أيضا لأن الماضي قوي في هذا المحور إلى الدرجة التي جعلته يمتد إلى المستقبل ويحتويه، تعويضا عن الحاضر وتأكيدا للذات وردا للاعتبار إليها.
*عوامل قومية وسياسية: تتصل باستيقاظ الوعي القومي والشعور العارم بهوية قومية واحدة ذات جوانب عرقية ولغوية وثقافية معينة.في هذه الحقبة ركن الكتاب والنقاد وغيرهم إلى الدفاع عن الهوية العربية في مرحلة هجوم أوربا المباشر (الاستعمار ) وغير المباشر (الاستشراق) وهذا الدفاع تمثل في الرد على التحديات الغربية ذات النظرية العنصرية الشوفينية التي تنطلق من أن كل ما أنتج خارج أوربا لا يمكن أن يضاهي ما أنتج بداخلها على اعتبار أنها مركز الثقافة و المعرفة، ومركز الحضارة، والاستشراق نفسه سيعبر من قنطرة سياسية خصوصا وأن تطور الاستشراق كان مرتبطا بتطور الاستعمار. ومن جملة ما يهدف إليه: التحكم في الإنسان حاضرا، ولن يتم له ذلك إلا بالتحكم فيه ماضيا وذلك عن طريق تشكيكه في تاريخه وتراثه وربطه بالثقافة الحالية.فالاستشراق هو الذي يتوجه إلى اجتثات تاريخ الشعوب ويفسده ويشكك الشعوب في ذواتها، ثم يربطها بتاريخ جديد يمجده لها، وبذلك يكتسبها.
أمام هذا الصراع المرحلي بين الشرق والغرب، ظهرت كتابات متعددة تعكس هذا الصراع، وتهدف كلها إلى إثبات الهوية العربية-وهذا ما عبر عنه التيار السلفي- وبذلك يكون الاهتمام بالنقد في هذه المرحلة لم يكن غاية في حد ذاته وإنما كان في إطار الصراع مع النظرية الاستشراقية وإثبات الهوية العربية...كل هذا شكل الهاجس الذي شغل تفكير طه أحمد إبراهيم وحكم طرحه.فهو هاجس قومي سياسي يرد فيه على التحديات الغربية التي تنص على أن كل شيء خلق في حجر أوربا يعتد به وأن ما خلق خارجها فهو دوني يستحق النبذ والاحتقار والتهميش.
أما عن قراءة د. محمد مندور للتراث فهي لم تكن من قبيل المصادفة في حياته وإنما تداخلت في توليدها وتشكيلها مجموعة من العوامل التي شكلت في النهاية نسقه المعرفي وحددت طبيعة المعالجة الفكرية عنده ومنها:
أ- تكوينه الثقافي:إذ أتاحت له فرصة السفر إلى فرنسا من أجل تحضير دكتوراه في الأدب العربي أن يغرف من منهل الثقافة الفرنسية على أيدي كبار نقادها في تلك الحقبة وعلى رأسهم "كوستا ف لانسونLançon Gustaph الذي أخذته مفاهيمه وآراؤه، وحاول تطبيقها على النقد العربي القديم.
إن محمد مندور قد أعاد قراءة النقد العربي القديم من خلال مفاهيم مسبقة جاهزة مستمدة من(Gustaph Lançon)، وهي مفاهيم يعتد بها النقد الغربي وتعتبر أساس تقويمه، فحاول ناقدنا العربي أن يبحث عن أصول لها في النقد العربي القديم، فلم يجدها في نقد الجاهلية ولا في نقد القرون الثلاثة الأولى، بل لم تتوفر له هذه المفاهيم النقدية الغربية إلا في نقد القرن الرابع الهجري مع كل من الأمدي والجرجاني، وكذلك اعتبر المرحلة السابقة للقرن الرابع الهجري لا تعدو المادة النقدية فيها لمحات أو إرهاصات نقدية غير ممنهجة.
وكان المنهج السائد في فرنسا في ذلك الحين هو منهج " تفسير النصوص" ويسمى كذلك "بالمنهج "الاديلوجي" وقوام هذا المنهج:
أ-الذوق: ويعتبره د.محمد مندور أساس العملية النقدية وفيه يقول:" إذا كانت أولى قواعد المنهج العلمي هي إخضاع نفوسنا لموضوع دراستنا، لكي ننظم رسائل المعرفة وفقا لطبيعة الشيء الذي نريد معرفته فإننا نكون أكثر تمشيا مع الروح بإقرارنا بوجود التأثرية في دراستنا وتنظيم الدور الذي تلعبه فيها... وما دامت التأثرية هي المنهج الوحيد الذي يمكننا من الإحساس بقوة المؤلفات وجمالها، فلنستخدمه في ذلك صراحة ولكن لنقصره على ذلك في عزم، ولنعرف كيف نميزه ونقدره ونراجعه ونحده، وهذه هي الشروط الأربعة لاستخدامه".(60)
ب- المنهج: وقد كان منهج د.محمد مندور في هذه الدراسة يعتمد على الاستقراء التاريخي لتطور الأحداث وتعاقبها.
ج- التعليل والتفسير: وهما أساس لوجود نقد موضوعي.
د- الفلسفة: يجب أن يعتمد النقد على فلسفة، لأن الفلسفة تصعد النقد من إعطاء آراء بسيطة في الموضوع إلى تأسيس نظرية، وهذه الأخيرة لن تتوفر إلا بتوفر الكم لمعلوماتي و المنهج المنظم، إذ لا يمكن الحديث عن نظرية في غياب المنهج المنظم لها." والنقد المنهجي لا يكون إلا لرجل نما تفكيره واستطاع أن يخضع ذوقه لنظر العقل. وهذا ما لم يكن عند قدماء العرب وما لا يمكن أن يكون".(61)
هذه هي الأدوات التي دخل بها د.محمد مندور للتأريخ للتراث العربي القديم وإعادة كتابته...
ب-طبيعة الجو الاجتماعي: ينتمي د.محمد مندور إلى الطبقة المتوسطة المتشبتة بالتقاليد وبتعاليم الدين الإسلامي، وهذه الطبقة كثيرا ما تعرضت للظلم، أسهمت في الكفاح من أجل الاستقلال، وكان تعبيرها السياسي يلتقي مع تطلعات البرجوازية الصغيرة، ومع الطبقة المتوسطة في المدن ومع العمال و الفلاحين.
ينتمي د.محمد مندور زمنيا إلى الجيل الذي أعقب جيل 1919، وتبلورت مفاهيمه من خلال المناخ المحموم المضطرب لسنوات 1936- 1952 فالفترة التي بت فيها د.محمد مندور مقالاته النقدية أنجبت جيلا حافلا بالرواد منهم: العقاد والمازني ورفاعة الطهطاوي وغيرهم ممن اطلع على المناهج الغربية. وهذا لا ينفي أن حركة التجديد ظهرت قبل جيل 1919، بل هذه الحركة الأولى هي التي أثرت في الثانية وأصبحت متداخلة معها لكن هذا التداخل بين المرحلتين لا يعني ذوبان الأولى في الثانية أو انصهار الثانية في الأولى عن طريق تشابه المفاهيم و السلوكات بقدر ما يساعد على الوقوف على الامتداد بين المرحلتين.
ج- طبيعة الجو الثقافي العام: عاش د. محمد مندور في فترة المخاض الثقافي الأوربي بفرنسا. وهو مخاض انتهى بعد الحرب العالمية الثانية إلى آفاق متعارضة كليا مع الآفاق التي تنبأ بها مفكرو القرن التاسع عشر، فعلاوة على الأحداث التاريخية الكبرى: صعود النازية، حملة العصيان المدني بقيادة غاندي، الجبهة الشعبية في فرنسا وحرب إسبانيا، كانت هناك محاولات تجريبية في مجالات الأدب والبحث سواء في الرواية أو في النقد الذي ساعدت فيه نظريات "فرويد" على ازدهار محاولات نقدية معتمدة على علم النفس، ونخص بالذكر محاولة " كسطون باشلار" في مؤلفه"حدس اللحظة "(1932).
وقد ظل د. محمد مندور مشدودا إلى المدرسة الفرنسية بحذافيرها سواء في "السوربون" أو مع المفكرين الفرنسيين، وهو يعترف بذلك حين يقول:" إنني أعترف بأن تكويني الفكري النهائي لم يتم إلا في أوربا وبفضل الثقافة العالمية التي استطعت تحصيلها هناك، وبخاصة الثقافة اليونانية و الفرنسية، تم واصلت الإطلاع فيهما قدر ما تسمح ظروف حياتي العملية... بعد عودتي من الخارج لأستفيد من كل ذلك في دراساتي لأدبنا العربي وبخاصة أدبنا الحديث والمعاصر الذي يتأثر اليوم بكل جهد."(62)أما في المشرق العربي فقد تحدثنا عنه لما كنا بصدد الحديث عن طبيعة الجو الاجتماعي.
وحين يطرح على د. محمد مندور السؤال التالي: إلى أي حد كان تأثركم بالجيل السابق من أدبنا ونقادنا إلى جوار تأثركم بالمدارس الأدبية والنقدية في الخارج؟ يجيب على الفور بقوله:" تأثرت قبل سفري إلى الخارج بالدكتور طه حسين في الصبر على فهم النصوص العربية القديمة وتذوقها، فهو يحذف هذه الأمور ، وإن كنت أعتقد أن تأثيره الأكبر كان كموجه نحو الثقافة العالمية وبخاصة اليونانية القديمة والفرنسية التي كان ولا يزال يتحمس لها حماسة ظهر أثرها في كتابه اللاحق عن " مستقبل الثقافة في مصر".
وتأثرنا بالأستاذ عباس محمود العقاد... ولا زالت أذكر أنني أفدت كثيرا من كتابيه القيمين "الفصول " و"مطالعات في الكتب والحياة"...وأفدت من إبراهيم عبد القادر المازني وبخاصة كتابيه"حصاد الهشيم"وقبض الريح"، ومقالاته... وأفدت من الدكتور محمد حسين هيكل، ومن منهجه التاريخي العلمي في البحث فائدة كبرى وبخاصة من كتابه الأول " في أوقات الفراغ"، ثم تصادف أن وقعت على كتاب فريد لهيكل لا أدري كيف اختفى من تراثنا وهو كتابه عن "جان جاك روسو" حياته ومؤلفاته"(63) وكم كان لكل هذا من أثر في توجيه الكتابة النقدية عند د.محمد مندور،كذا تأسيس رؤية جديدة في تأريخ و قراءة وإعادة إنتاج النقد العربي القديم.
ونقلب الآن الصفحة، لنلتقي مع د. محمد غنيمي هلال وتأريخه للنقد العربي القديم فننص من البدء أنه قرأه انطلاقا من الزاد الأوربي وتوجه إليه بعقلية بعيدة عن العقلية التي أنتجته، وهي عقلية الإنسان الأوربي، التي تختلف عن عقلية الإنسان العربي، لأن الظروف و الملابسات التي أنتجت كل واحد منهما تختلف عن الأخرى اختلافا جوهريا.
وينتهي د. محمد غنيمي هلال بترصده لتاريخ النقد إلى أنه لا نشأة للنقد إلا مع نشوء الفلسفة وفي غياب الفلسفة يشهد تاريخ الثقافة غياب النقد، وكان دليله في ذلك هو استقراؤه للنظريات الأوربية القديمة التي وجدها مرتبطة بالنظريات الفلسفية، بل إن النقاد الأوربيين القدماء كانوا فلاسفة ومنهم أفلاطون وأرسطو، إذ كان لكل منهما نظرات في النقد وخوض في حقل الفلسفة، هذه النتيجة التي وصل إليها د. محمد غنيمي هلال جعلته ينص أن النقد الأدبي لن يتأسس إلا مع تأسيس الفكر الفلسفي، فما دامت الفلسفة غائبة في المرحلة الجاهلية وصدر الإسلام ومرحلة القرن الثاني، فإنه يترتب عن ذلك غياب النقد الأدبي، ولن نتحدث عن النقد الأدبي إلا مع القرن الرابع الهجري بعد ظهور علم الكلام والفلسفة الإسلامية.
لن يستطيع أن يكون هذا الطرح متماسكا إلا إذا استطاع الوقوف في وجه هذه الملاحظات الجزئية وهي:
أولا: إن د. محمد غنيمي هلال تناول النقد الأدبي كنظرية قائمة بذاتها وليس كممارسة تطبيقية، فهو بذلك يتناول نظرية النقد المرتبطة بالفلسفة في مرحلة من مراحل تطور النقد الأدبي، ولا يتحدث عن النقد في ذلك، و النتيجة أنه تغافل عن المراحل التي كان النقد فيها بسيطا جزئيا يرتكز على الأحكام الذوقية. يحكم للشاعر له أو عليه من خلال البيت الواحد بل الشطر الواحد في غالب الأحيان، وهذه المرحلة هي التي تبلور عنها النقد والتي شكلت لبنته الأولى، لذا يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، إذ لولاها لما وجد لدينا نقد. ألا نعلم أن كل نظرية في العلوم الإنسانية لا يمكنها أن تنشأ من فراغ محض؟ أجل، فلا يمكن أن تظهر نظرية بين عشية وضحاها،وإنما النظرية كتصور عقلي متكامل يحوي بين طياته مجموعة من المفاهيم الجزئية التي تتدرج حتى تصل إلى نوع من التطور الذي يخول لها أن تشكل في نهاية التدرج والتطور "نظرية" أو هي في أدق تعاريفها:" جملة تصورات مؤلفة تأليفا عقليا تهدف إلى ربط النتائج بالمقدمات"(64) تحتاج إلى تدرج وتطور وتخمر،فكذا شأن النقد والفلسفة،فنحن لا نعرف أحدا نشأ فيلسوفا، ولم يثبت التاريخ الفكري نظرية فلسفية نشأت كاملة. بل لا بد هناك من مراحل يمر بها الإنسان والفكر معا، يبتدىء من الملاحظة المباشرة في علاقته بالكون ثم طرح التساؤلات التي تثير الدهشة والتي تستفز العقل، وبعد ذلك البحث لها عن أجوبة في الغالب ما ينبثق عنها الرأي الفلسفي وفي النهاية النظرية الفلسفية.إن هذا التسلسل، وهذا التدرج هو ما يسير عليه النقد في مسيرته التاريخية فقد ابتدأ من الرأي البسيط الساذج الفج غير المعلل وغير المفسر لينتقل إلى مرحلة تمتاز بالتعليل والتفسير ليصل إلى مرحلة مستوى النظرية ،دليلنا في ذلك التطور الذي خضعت له القصيدة العربية عبر مراحل تطورها ، إذ نعلم جميعا أن القصيدة قد اتخذت خطوات متتابعة في طريقة النضج حتى انتهت إلينا على سننها المعروفة. فقد بدأت من" الحذاء" و انتقلت إلى "السجع" ثم إلى "البيت" و إلى "الأبيات" حتى استوى هيكلها في نحو ما قاله المهلهل أو سواه، إن هذه الخطوات المتنقلة من منزلة إلى منزلة، لم تكن إلا وليدة مراجعة نقدية من الشاعر حينا ومن المتلقي حينا حتى وصلت بالقصيدة إلى وضعها المألوف وقد ضاعت الخطوات الأولى في طريق النقد كما ضاعت النماذج الأولية من الإنتاج الشعري فهو جذور تضرب في الأعماق وقد أينعت ثمارها بظهور القصيدة المكتملة في شبابها الزاهر الناطق عن طفولة مرت وصبا زال.
ثانيا:قارن د. محمد غنيمي هلال بين النقد العربي والنقد اليوناني في قضية النشأة الأولى.فذكر أن الأمة اليونانية كانت في بداوتها البعيدة تعتمد على دقة الحس وطلاقة اللسان فيما تصدر من الآراء.وكان لها رواة يتعصبون للشعراء ويذكرون أسباب المنافسة بين القائلين، ثم جاء عهد التدوين ليحفظ الإلياذة والأوديسة منقحين تنقيحا يعتمد على الذوق الفطري ويضع حدا لتصرف الرواة في المحو والإثبات،
و ظهر الشعر التمثيلي وظهر معه النقاد الذين يختارون للتمثيل ما يتميز بخصائص راقية تمتع الجمهور، فدفعوا بالشعراء إلى الإجادة والإتقان، ثم تقدمت الفلسفة شيئا فشيئا فاستطاعت أن توصل النقد الأدبي وأن تقيمه على دعائم قوية من المنطق، وبذلك تم لأرسطو أن يقعد القواعد النقدية وأن يصبح كلامه المرجع الأول للأساتذة في النقد وأصحاب الدراسات البلاغية المختلفة. هذا ما يقال عن النقد في اليونان ليلتصق بالنقد في أدب العرب نشأة وتطورا، وليفرض على النقد في العصر الجاهلي أن يكون جميعه ساذجا جزئيا يعتمد على الارتجال كما كان النقد اليوناني في منشئه سواء بسواء، وقد نسي هؤلاء أن ما لدينا في الأدب العربي من نقد الجاهلية لا يكاد يمتد إلى زمن سحيق أكثر من مائة عام قبل الإسلام على الأكثر، بمعنى أنه لا يمثل الطفولة الساذجة في هذا العصر، بل يمثل النضوج المكتمل بعد أن قامت القصيدة العربية على ساقها وتجاوزت دور الزحف والحبو، ووجد من الشعراء من كانوا يبطئون في النظم كل إبطاء حتى عرفوا "بالحوليات"...
ثم إن الإمعان في المقارنة الدولية بين أدب العرب وأدب اليونان من حيث النشأة يغفل مقررات علم الاجتماع وقواعده التي تدبر هذه المقارنة على طبيعة الإقليم وجنس الأمة وعقائدها الفطرية، ومسافة الزمن قصرا وطولا، وإذا كانت بلاد اليونان جبلية ذات بحر وبر وجزر وغابات وبراكين، وكان أهلها من ذوي الملاحة والزراعة، فكيف يقرنون بالعرب وهم مختلفون طبيعة ومناخا وجنسا وعقيدة، ليكون النقد في عصر الجاهلية مشابها للنقد في بداوة اليونان... إن من البراهين الواضحة على فساد هذا التطابق المزعوم أن الشعر الجاهلي كان غنائيا وأن شعر البداوة في اليونان كان تمثيليا، وكذلك اتجه النقد وجهة الإنتاج في كلتا الأمتين، فعلينا إذن أن نكف عن تحمل المقارنات البعيدة حين نتكلم عن طبيعة النقد الجاهلي لنأتي البيوت من أبوابها.
ثالثا: إذا سلمنا بأن النقد الأدبي ينشأ ويتأسس مع الفلسفة، نطرح السؤال التالي: متى تنشأ الفلسفة ؟ ونستطيع القول: إنها لا تتأسس طفرة واحدة ولكن بعد تراكم مجموعة من الخبرات لأنها في أبسط تعريفاتها: "هي تصور حول الكون عامة " وهذه الخبرات المتناثرة هي التي تبلورة في إطار نظري، فالشروط التي تؤدي إلى نشوء الفلسفة هي نفسها المؤدية إلى نشوء النقد الأدبي، من تم لا نربطها إلا بمرحلة معينة من مراحل النقد، وهي مرحلة نضجه حيث ظهرت علوم مختلفة: نحو، عروض، بلاغة، لغة، فنصل إلى أنه قد يقع التزامن بين النقد والفلسفة وقد يشتركا في تراكم الخبرات، وفي تطور الفكر التجريدي الإنساني ولكن لن يرتبط ظهور النقد بظهور الفلسفة.
لم يكن عبتا أن يأتي د. محمد غنيمي هلال بمثل هذه الآراء، فقد عاش في فترة النصف الثاني من القرن العشرين، وهي فترة من فترات تأزم جميع المستويات في التاريخ المصري الناتج عن التبعية التي يعيشها الشعب المصري للغرب عامة والإنجليز خاصة "فقد كانت مرحلة 1936-1952 وهي مرحلة صعود قوى اجتماعية جديدة، والسعي المزدوج إلى تحقيق الاستقلال وتثبيت الذات القومية، كما تطبعها المجابهة بين الاختيارات الدينية"الجديدة"وبين الاختبارات الوطنية والاشتراكية"'(65).
الملاحظ إذن، أن كل هذه الطروحات تدور في فلك واحد هو: الدفاع عن الذات العربية من أجل إثباتها، والدفاع عن القومية العربية والدعوة إلى إصلاح الأمة العربية وإيقاظها من سباتها العميق. وقد رأى د. محمد غنيمي هلال أن السبيل الوحيد لتحقيق هذه الدعوة هو الرجوع إلى الفكر الغربي والأوربي على الخصوص.إذ هي النموذج الذي ينبغي أن يحتدى لأنها عرفت في تاريخها الطويل نفس فترات الظلام التي يعيشها العالم العربي الآن، واستطاعت أن تقشع نور حضارتها، وتبني صرح نهضتها برجوعها إلى تراث اليونان. وهذا بالفعل ما جعل د.محمد غنيمي هلال يتحمس لهذه الفكرة ويدعو إليها خاصة بعدما تشبع بها في المدارس الغربية:" فقد أوفدته الدولة في بعثة علمية لدراسة الأدب المقارن سنة 1934 واستمرت بعثته حوالي تسع سنوات حصل خلالها على الليسانس ودكتوراه الدولة في الأدب المقارن من جامعة السور بون في فبراير سنة 1952"(66) وكان لهذا انعكاس في جميع كتاباته النقدية:" من هنا كانت جهود د.محمد غنيمي هلال الذاتية بدءا بكتابة الأول عن الأدب المقارن، فالرومانيكية، فالحياة العاطفية بين العذرية والصوفية، فالنقد الأدبي الحديث،فالنماذج الإنسانية في الدراسات الأدبية المقارنة، فدور الأدب المقارن في توجيه دراسات الأدب العربي المعاصر، فالمواقف الأدبية وأخيرا كتابه: في النقد التطبيقي المقارن، وقضايا معاصرة في الأدب والنقد. لقد كانت هذه المؤلفات العلمية الأكاديمية جهدا واحدا متصلا من أجل التعريف بالدراسات الأدبية المقارنة والإسهام فيها وتوضيح رسالتها الخطيرة الشأن فيما يخص الوعي القوي من تغذية شخصياتنا القومية نواحي الأصالة في استعدادها وتوجيهها توجيها رشيدا، وقيادة حركات التجديد فيها على منهج سديد ومثمر، وإبراز مقومات قوميتنا في الحاضر، وتوضيح مدى امتداد جهودنا الفنية والفكرية في التراث الأدبي العالمي".(67)
مما سبق نخلص أن دراسة النقد القديم من منظور فلسفي حديث وربطه بالنقد الغربي عند د. محمد غنيمي هلال له ما يبرره على مستوى الواقع. فقد كانت رغبته كباقي مثقفي عصره، تتخذ مسارا قوميا هدفها إثبات الكيان العربي في مواجهته للغرب...
والسلام عليكم ورحمته تعالى وبركاته
السيدة:بشرى تاكـفـراست
أستاذة جامعية