النقاد يتحدثون ، النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير
النقاد يتحدثون ، النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير
الدكتور عبد الإله الصائغ
السيرة القصة:
إذا كانت الرواية قادرة على استيعاب السيرة الذاتية العريضة لبطل الرواية بسبب طبيعة (النمو) في الرواية، فان القصة أقل قدرة على استيعاب السيرة العريضة من الرواية فهي ولطبيعتها البنيوية قادرة على التقاط جانب من حياة البطل وذلك لا يهوّ ن من شأن زاوية الالتقاط وحجمها.. فالثابت ان القاصّ لا يختار لقصته الا الجانب الذي يراه جديراً بالكتابة، فيسلط عليه الضوء! وربما تكون طبيعة القصة اقرب لطبيعة السيرة، فهي (القصة) تشتغل على جزء منها (السيرة) فتحسن المعالجة من خلال تظهير المهم وتغييب ما يراه القاص غير مهم، وقد أَجْريت حوارات كثيرة مع كتّاب القصة في العراق والأردن وليبيا والمغرب وتونس واليمن فاعترف لي أكثر هؤلاء ان القصة قادرة على استيعاب الهموم المقطعية التي يراد التعبير عنها، وكان الدكتور نجمان ياسين في مجموعته القصصية ذلك النهر الغريب قد نجم المجموعة إلى ما يشبه الفصول، فكل قصة تقف عند حد، وتجيء بعدها القصة الأخرى لتكمل مشوارها بل ان (الطفل-الصبي-نجمان) يقفز من قصة إلى أخرى حاملاً الملامح نفسها والهموم اياها وقد كتبت في هذه المجموعة بحثاً توصلت في نهايته إلى ان البطل في قصص ذلك النهر الغريب كافة هونجمان ياسين فالتقاني القاص نجمان واثنى على توصلاتي وقال بزهو (ذلك الصبي هو أنا). اما القاص السوري د.دريد يحيى الخواجة فقد صنّفت الدراسات النقدية التي حلّلت اعماله القصصية على أنها ترجمة فنية جمالية لواقع غير فني وغير جمالي، يقول المستشرق البلغاري الكسندر فاسيلينوف (لقد خرج دريد يحيى الخواجة من الإطارات المتجمدة للتقاليد إلى واقعيته الخاصة) . وهذه الواقعية الخاصة تحيلنا إلى منظور الخواجة الخاص واجتهاده في استثمار فن السيرة في قصصه، فدريد الخواجه (يهتم بالتعبير عن الحياة من زاوية معينة وفي لحظة محدودة، مختارة بعناية، تصور الحياة والناس في اللحظة المكثفة) وقد كشفت دراسة وليد فاضل لقصة الإشارة ياسيدي رحّال التي كتبها دريد الخواجة الحبل السري الذي يربط بين حياة القاص الخواجه وبين قصصه، وهو كشف ينفع شغلنا في ملاحظة السيرة الذاتية من خلال فن القصة، وسننقل عبارات وليد فاضل حرفياً: (1)القصص التي كتبها دريد حول حمص ترينا اتزان القاص وتماسكه حيال الحدث فالقاص هنا مجرد مراقب وراصد يرصد الحياة الاجتماعية والثقافية والعادات والتقاليد ووسائل العيش في مدينة حمص، فقصته من هذا المنطلق سجل تاريخي موثوق به ودقيق.. لكن الخواجة لم يكن مجرد مراقب حيادي! مجرد مصور!! لو كان كذلك لكانت كتابته أقرب للحادثة التاريخية منها للحادثة الفنية لكن الخواجة كان المراقب المندمج والمندغم وصاحب الرؤية في الموضوع وهو اندماج لا يلغي ذاتيته، ان ذات المؤلف ما تزال واضحة. (2)ان قصص دريد تمتلك الرؤية الموضوعية الدقيقة والواضحة من خلال ذات مندمجة ومتفاعلة مع الموضوع لكنها ذات لا تفرض نفسها على الموضوع بحيث تبدو القصة وأشخاصها مجرد رجع لذات المؤلف. (3)على البرزخ الفاصل بين الذات والموضوع سار دريد في قصصه، فرسم لنا بريشة الفنان الواقع وشموله وفي ذات الوقت أعطانا دفء الذات وعاطفتها وتفاعلها مع الواقع، ولم يكن واقعه جامداً جافاً مرسوماً بخطوط هندسية صماء! إنه الواقع الدافئ. (4)دريد ليس مجرد مراقب للحدث القصصي انه فاعل ومنفعل به، الغربة التي عاشها الخواجة في المغرب ثم نمط الحياة الجديدة التي امتدت أمام مخيلة المؤلف؛ تلك الرواية انغرست في صميم روحه.. إن قصصه المغربية قد زال فيها الحاجز بين الذات والموضوع فلم يعد القاص راصداً للحدث بل أصبح هو صاحب الحدث وبطله، وتداخل الذاتي بالموضوعي، بحيث لم تعد قادراً على ان تميز بين ما هو ذاتي وماهو موضوعي وقد التقيت القاص د. دريد يحيى الخواجة وحاورته في ظاهرة السيرة الذاتية التي تتجلى في أعماله القصصية . فأوضح ان القصة التي ترصد حياة كاتبها رصداً واقعياً فنياً هي الأقرب إلى أنموذجه المفضل، والأقدر على صناعة موازنة جمالية بين حياتين هما في حقيقة الأمر حياة واحدة: حياة واقعية يعيشها المبدع بوصفه مخلوقاً اجتماعياً ذا تجربة وحساسية استثنائيتين وحياة أخرى تفككها القصة لتعيد تشكيلها داخل تجربته الجمالية ومتخيله السردي ثم حدد لي عدداً من قصصه المنفتحة على فن السيرة الذاتية من نحو قصص: الجثة ومعتزلة وغيابك طال وطائرة مكسيكية وحالة صرصورية، والجريحان الرهينة الأولى (معتزلة) دريد الخواجة (نموذج القصة السيرة): مررت على دار يدور فيها عرس، وأنا في طريقي إلى مركز المدينة. الدور الأرضي يطل بأنحائه على الشارع الصاعد من على سور واطئ. تسنى لي مع المارين رؤية مظاهر البهجة فيه مباشرة. الهرج والمرج يجريان في جزء واسع من باحة الدار، تغطي جل سمائه دالية بأغصان نضرة وأوراق خضراء باهية، تركت فرجات للنجوم حتى تشارك في الاحتفال.. وبقي الجزء الضيق وحده مظلماً، تتناوح فيه بعض أضواء السيارات الخاطفة، وبعض انعكاسات أضواء العرس والشارع، تقبل باهتة متكسرة إلى هذا الجانب، حيث يتراكم فيه أثاث قديم وأشياء مستهلكة ومهملات تكاد تبز القاطع الخشبي الذي يفصل بين الجزأين. الأضواء المتألقة تعج بالألوان؛ في لحظة اخترقت نظري بقعة بيضاء ناصعة.. العروس على كرسي ملكي تزهو بلباس الزفاف الأبيض، تتعلق بها العيون، وتذهب إليها أفئدة لداتها.. حركة عناية خاصة تختلج في دائرتها.. ها هو ذا الرقص في انعقاد.. والأحاديث تجري.. والضحكات، تعلو. يزيد ذلك رهجاً صحف أطايب الطعام على الموائد الطويلة وفوق الرؤوس تحملها الأيادي محاذرة بخفة.. أشياء كثيرة يمكن أن يلحظها المرء وهو يمر على هذا الحفل، تترك انطباعاً بأن الحياة تظل جميلة، ومتجددة ومستمرة. في العودة مررت على الدار نفسها.. بهتت مظاهر العرس وضجيجه ولكنها لم تنطفئ.. أقارب العروس غدوا أميل إلى أن يسرّ بعضهم إلى بعض، وبعضهم يعابث العروسين. الضحكات لم تعد متوالية، غدت أشبه بفرقعات متناثرة بين حين واخر.. اما هي! ففي الجانب المظلم رأيتها بين الخردة، أخافتني أول الأمر خلتها شبحاً، وقفت ارقبها في فضول.. غريبة تجلس منحنية الظهر جنب فروع الدالية، لم استطع تبين ملامح وجهها المدفون بين يديها.. ثيابها أنيقة جداً، لابد أنها مشاركة في الإحتفال.. ما السبب الذي دفعها إلى الإعتزال هنا!.. كانت تضع شالاً أبيض على رأسها فجأة أسندت ظهرها إلى الحاجز الخشبي، مطت جسدها مثل غريق يرتجف على وشك الاختناق.. تكررت شهقاتها وبدت لي منتحبة سجينة هذا الصمت في مكان دامس مهمل لا يمكن ان يبحث عنها أحد فيه.. كأنها احسّت أنها مراقبة.. ارتبكت في اخفاء حالها.. وانسلّت مسرعة إلى صمت أعمق داخل المكان. * السيرة والشعر: لعل أول إشارة وردت إلى السيرة الشعرية جاءت في ملحمة جلجامش، فهذا البطل المحوري الذي رأى بعينيه كل شيء وعرف جميع الأشياء وعاند وكابد؛ فإذا حل به التعب (نقش في نصب من الحجر كل ما عاناه) وهذه إشارة إلى انه حرص على كتابة سيرته الذاتية على ورق ذلك الزمان وهو الحجر أما الطباعة فكانت على نصب ذلك الحجر المنقوش في موضع يقرؤه الناس (هو الذي رأى كل شيء فغنى بذكره يا بلادي/ وهو الذي عرف جميع الأشياء وأفاد من عبرها/ وهو الحكيم العارف بكل شيء/ لقد أبصر الأسرار وعرف الخفايا المكتومة/ وجاء بأنباء ما قبل الطوفان/ لقد سلك طرقاً قاصية في أسفاره/ حتى حل به الضنى والتعب/ فنقش في نصب من الحجر كل ما عاناه وخبره) والشعر.. أي ضرب من الشعر (سوى التعليمي) إنما هو سيرة على نحو ما أو شبيه أو قريب من السيرة، الذاتي والموضوعي، فهو بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ينقل لنا سيرة الشاعر أو أفكاره أو معتقده أو سيرة بيت حبيبته أو قبيلته أو مدينته أو سيرة غريم الشاعر! ولن يتوقع الدارس العثور على قصيدة صريحة تكشف بالعبارة الواضحة انها السيرة الذاتية للشاعر أو أفكاره، لطبيعةٍ في الشعر أو الشاعر، فالشاعر إذا أحب ليلى أسماها في شعره سعدى، وإذا سكنت وادي العقيق زعم انها تسكن وادي الغضا، انه لا يسمي الأشياء بأسمائها، ولا ينقل المعاني بكليتها، ولا أحد يسره ان يقرأ لشاعر يقول الأشياء كما هي.. وبشكل مباشر وتقريري. وحين اصدر الشاعر د. عبد العزيز المقالح، (كتاب صنعاء) وجاء الإهداء فيه على هذا النحو (إليها.. كما رسمتها مخيلة الطفولة والكهولة)، انهمرت الدراسات النقدية تحلل وتؤول وترمم، فكثرت الاجتهادات بما أغنى الدارس بمادة علمية مهمة!! ثم ضمّني مقيل أدبي في بيت الشاعر د. عبد العزيز المقالح وفوجئنا ان د. المقالح يطلع علينا ب(بروفات) لديوانه الجديد القرية.. وكانت المفاجأة الثانية أن الشاعر المقالح قرأ قصائده الجديدة بنفسه وهو لا يفعل ذلك إلا في الأندر الأندر!! وإذا انتهى من القراءة وجدت السانحة أمامي ماثلة لمناقشته في مشواره الشعري الجديد (صنعاء/القرية) فبادرته القول: انك تغيّب صوتك، الا لماماً، ونحن نعلم ان القرية صورة أخرى لك، فهي شبيهتك برتابتها أو عنفوانها، بمفارقاتها، ببيوتها، تاريخها، انك غيبت صوتك، ليكون صوتك المغيب ماثلاً في متخيل المتلقي وبِدَويٍّ غير اعتيادي، فحلاق القرية جزء من حياتك، ومجنونها جزء من ذاكرتك وصباحاتها ومساءاتها جزء من تَوْقِكَ!! أجاب د.المقالح: إنني معنيٌ بشعرية النص أكثر مما أنا معني بالمحمولات الفكرية، يهمني أن أفهم: أهذا شعر أم لا؟! هل امتلكَ كتاب القرية جذوة الشعر!! أما تأويلك لسلوك القرية فأنا اوافقك عليه!! وقد شجعني أمر موافقة الشاعر المقالح على تأويلاتي، فأمعنت في المفاتشة، وتساءلت عن الرديف النثري للنص الشعري!! أرأيت د.المقالح ان الشعر لم يؤد رسالته الجمالية أو الدلالية، فاستعنت بالنثر!! مع ان جماليات النثر الرديف قريبة الروح من الشعر أم ان النثر جاء ليكرس فكرة شغلت بالي منذ كتاب صنعاء، وهي انك تكتب ضرباً من السيرة الذاتية للقرية التي تتماهى معك؟! فأعاد د.المقالح القول انه معني بجذوة الشعر قبل كل شيء.. اما النثر –القول للدكتور المقالح مازال- فهو فسحة للقارئ.. كي يهدأ بين مقطع شعري وآخر.. النص إذا كان شعرياً طويلاً فإنه يتعب القارئ لتطلبه مقداراً عالياً من الاستيقاظ الذهني والمتابعة المتوترة.. فالنثر إذن واحة استراحة تربط مساحة النص السابقة باللاحقة .. أما مقولة ان النثر يعضد خط السيرة في كتاب القرية أو صنعاء.. فهذا أمر متروك للدارس لكنني أقول أن ديوان صنعاء أو القرية محاولة للإمساك بالذاكرة وقول أشياء جديدة اشعر أنني لم اقلها في أعمالي السابقة..إ.ه. وقد لاحظ د.جودت فخر الدين ان كتاب صنعاء ضرب من السيرة الشعرية، بيد انه ضرب جديد تماماً.. فالمقالح شكّل صورة عن صنعاء (بأوهام الطفولة وأحلام الشباب وتجارب الرجولة ورسم تخومها بين أحضان الجبل وأطلقها في فضاءات تاريخها الرحب) كما لاحظ ان القصائد داخل كتاب صنعاء تشبه فصول الرواية حتى (يمكن اعتبارها مقاطع لقصيدة واحدة) والملاحظة الأهم لدى د. جودت ان صنعاء القصيدة الواحدة التي تعبق بروح المكان والمدينة تمثل سيرة ذاتية متداخلة بين الشاعر والمدينة فقد (مزج الشاعر بين سيرتها وسيرته الشخصية في سياق فني يمزج بين التوثيق والتصوير وبين التثبت والتخيل، بين النثر والشعر) ود.جودت وهو شاعر لبناني معروف ادرك بحسه الشعري قبل النقدي ان الإثنين (صنعاء والمقالح) ذابا معاً (يرسم المقالح صورة متكاملة العناصر لمدينة صنعاء وهو في ذلك يجعل سيرته الشخصية عنصراً من عناصر هذه الصورة، لا يرى إلى نفسه الا جزءاً من سيرة مدينته) كما لاحظ د.عبد الرضا علي ان صوت الراوي في (كتاب صنعاء) عميق ومتداخل لأن الأمر يعنيه (الشاعر عمد إلى تقنية الراوي العليم الذي يجنح إلى التداعي الحر والى السرد الوصفي حين يبتعد عن تداعيه) كما لاحظ د.عبد الرضا حالة التوافق في (بطل القصيدة/ الشاعر) أما د.صبري مسلم فقد استوقفه المهاد البصري في (كتاب صنعاء) وحضن هذا المهاد كثيراً من الصور التي اختزنها الشاعر عن صنعاء وهي صور تعكس من خلال المجاز رؤية الشاعر لمدينته فيه أو رؤيته لظله في المدينة، فيحصل المزاج بين العناصر لتشكيل عنصر واحد فمثلاً (يمزج الشاعر بين أزمان مدينته صنعاء وألوان الحجارة التي تطل من جبالها) فالدكتور المقالح يصل إلى الحقيقي من خلال المجازي والى المركز من جهة الأطراف، وصنعاء مشهد بصري، يراه الشاعر في الحلم والصحو معاً.. وقد أيقن د.حاتم الصكر أن كتاب صنعاء ( سيكون الأهم بين أعمال المقالح الشعرية) ويقينه مستند إلى مسوغات يأتي في طليعتها أن الكتاب مشروع مهم (يرتبط بسيرة المدينة والشاعر، بطفولتهما وكهولتهما معاً… وفي رؤية كهذه تكون الذات جزءاً من موضوعها، إننا لا نتسلم مواجع أو مواجد أو غنائيات تتجه إلى الموضوع الكامل في الخارج كماهو المعتاد في أشعار الحنين إلى الطفولة زمناً ومدناً وذكريات بل سنعاين ذات الشاعر مندرجة في موضوعها متماهية معه في كيان واحد فالمدينة هنا ليست أبعاداً جغرافية وتاريخية مستقلة أو منعزلة عن وعي الذات وشعورها به،.. فنحن لا نتعرّف على المدينة إلا من خلال احتكاك الشاعر بها طفلاً وشاعراً، واسترجاع سيرتها عبر الذكريات والتعرّف الحدسي والمخيلة والاكتشاف الذاتي المحض) ويقين د.الصكر يشبه يقين د.فخر الدين فكلاهما.. توصل إلى ربط كتاب صنعاء بسيرة المقالح الذاتية، وكلاهمالم يحسم الجانب القصدي في كتاب صنعاء باتجاه فن السيرة، حتى ان د.الصكر وجد ان القصائد -ربما- هرّبت مقاطع من سيرة المقالح قارن قوله وهو يتحدث عن القصيدة الرابعة عشرة (ولعل هذه القصيدة التي تهرب لنا جزءاً من سيرة الشاعر الذاتية، تعلل ذلك الانشداد الى المدنية والالتصاق بها ماضياً وحاضراً. وهكذا يبدو كتاب صنعاء عمل العمر الذي انتظره الشاعر وقارئه معاً، فلطالما كانت صنعاء طيفاً في سياق المقالح وشيئاً سحرياً يمرق من كوى الذاكرة ويقتحم فضاءات قصائده، فكان طبيعيا ان يخصص لها هذا العمل المطول الذي التحمت اجزاؤه كتراتيل نشيد أو صلاة مبتهلة لجمال مدينة الطفولة وسحرها الآسر… وتكاد القصائد الست والخمسون إضافة إلى قوسي المفتتح والخاتمة تطابق سنوات عمر الشاعر) . *كتاب صنعاء – عبد العزيز المقالح. نموذج (السيرة/ الشعر): كانت امرأة / هبطت في ثياب الندى / ثم صارت مدينة القصيدة الأولى: هي عاصمة الروح / أبوابها سبعة / والفراديس أبوابها سبعة / كل باب يحقق أمنية للغريب / ومن أي باب دخلت / سلام عليك / سلام على بلدةٍ / طيب ماؤها طيب / في الشتاءات صحوٌ أليف / وفي الصيف قيظٌ خفيف / على وابل الضوء تصحو / وتخرج من غسق الوقت / سيدةً في اكتمال الأنوثة / هل هطلت من كتاب الأساطير؟ / أم طلعت من غناء البنفسج؟ / أم حملتها المووايل / من نبع حلم قديم… …مكة عاصمة القران / باريس عاصمة الفن / لندن عاصمة الاقتصاد / واشنطن عاصمة القوة/القاهرة عاصمة التاريخ / بغداد عاصمة الشعر / دمشق عاصمة الورد / وصنعاء عاصمة الروح / في أعماقها كنـز مخبوء / للحلم / وفي رحابها تقام الأعراسُ البهية / وتولد من الحجارة أشكال وترانيم / ويكتب اللون الأبيض / قصائده الباذخة / ويدوّن الليلُ أساطيره المثقلة / بعناقيد الشجن / ومجامر الأطياب / على الجدار الداخلي الأملس / لباب اليمن. كتب شاعر يماني: (هي صنعاء حانة الضوء فادخل / بسلام وقبّل الأرض عشراً / واعتصر من جمالها الفاتن البكر / رحيقاً يضيف للعمر عمراً).. القصيدة الرابعة: هي عاصمة الروح/مغمورة بالضحى والتعاويذ/تومض أشجار ذاكرتي حين أدخلها/وأراها بأطمارها تتوهج عارية/تحت جمر الظهيرة/أذكرها…/كنت طفلاً بعينين ذاهلتين/ رأيت مفاتنها/وبقايا "البرود"/وتابعت فيض خطاها/شربت الشذى/واستحمت جفوني بماء الظلال/وشاهد قلبي ملائكة يرسمون على الأفق/أودية وقصورا/وأروقة/كانت العين تسمع أصوات فراشاتهم/وترى الأذن كيف تصير السحابات /لوناً/وتغدو الحقيقة حلماً/على درج الضوء أدركت أني بصنعاء/أن النجوم إذا ما أتى الليل / ترقص في غرف / النوم / والقمر المتوهج يضحك من شرفات البيوت. (يستطيع الفقر أن يكون جميلاً/وناصعاً/اذا داوم النظر الى وجهه/بمرآة النظافة/واستحوذ عليه ما أبقت القرون/من ترف الذوق/وأرصدة الجمال/هذا ما تتحدث به ألوان الطيف/التي تقذف بها النوافذ الزجاجية /من البيوت الصنعانية/الى الشوارع المعتمة/وفي ضوئها تتلألأ الأقدام /وتتصاعد سحابات من البخور/أعذب المدن/ليست تلك المسورة بلبنة من الفضة ولبنة من الذهب/ولا تلك التي تتوهج الجواهر الثمينة/من شرفاتها العالية/أعذب المدن،/هي تلك المسورة بالياسمين/والتي تغسل القلب/وتوحي للعين بطمأنينة مفاجئة). القصيدة الثانية عشرة: هو مجذوب صنعاء/يمشي على قلبه/ويسافر فوق بساط من الشطحات الجميلة/لا أصدقاء له غير توت البيوت/يناوش أطفالها وعجائزها بالأساطير/بالكلمات الغريبة/هل عاش أم هل يعيش كما/تدعي الشطحات هنا/منذ "الفين عام"/يقلب أحجارها حجراً حجرا/يتكلم أكثر من لغة/ويبدل أقدامه كل قرن/ويلقي عصاه. (سألته عجوز في الحارة /لماذا تتحدث إلى الأحجار/انها لا تسمع/ابتسم، ونظر نحو الجدار في حزن/وقال: /الحجر غيمة مجمدة/سحابة لا تتحرك/أغنية محملة بأنين القرون/يحتاج الإنسان ان يعيش سبعة آلاف عام/لكي يسمع ما تقوله هذه الأحجار/ولكي يقرأ ماتحتفظ به من كتب الصمت/ثمة نهار وشمس في قلب كل حجر/ثمة سماء وقصائد تائهة/قناديل مشتعلة من دون زيت/وشبابيك لا يطل منها سوى وجه التاريخ). القصيدة الثانية والعشرون: ذات عصر/ذهبت أنا وصحابي لنرتع/فوق الهضاب القريبة /أدركنا الليل/حين رجعنا وجدنا المدينة موصدة/وذئاب الظلام تحاصرها/وهي عاكفة تكتب الفجر/ساعتها طافت الروح- ليلاً-/بأبوابها السبعة الحجرية/ثمة ضوء/يحاول أن يعبر السور/أن يتوكأ بالصوت/حاولت،/حاول كل الرفاق الصعود عليه/فلم نستطع؛ خذلتنا، أصابعنا/تلك رؤيا تهز دمي/أيقظتها مياه التذكر/أطلقها من شظايا الظلام/جدار قديم. (قبل أن يغمد الغزاة خناجرهم/في أوردة الأحياء والمنعطفات/قبل أن تتوقف الغزلان الرقيقة / عن اللعب على الطرقات البرية/كانت أسوارها الجبال/وسيوفها أوراق الورد/وأغصان الريحان/لم تكن تخشى الظلام/أو تضع حراساً عند الأبواب/ولم يكن الأرق ينتحب في عينيها/ولا صفارات الخوف تمزق براءة صمتها/بعد ذلك/صارت ترتعش من لون المغيب/ وتوصد أبوابها السبعة/في وجه آلاف الذئاب). القصيدة الرابعة والعشرون: ذات حلم/هبطت على سلم من أساطير/محفورة في ضمير الزمان/رأيت بيوتاً من الضوء/أعمدة من نهار بهيج/وأسواق من فضة/وشوارع من ذهب/قيل لي: تلك صنعاء/كان المغنون والشعراء يطوفون/في ساحة أورقت بالتلاميذ،/والعلماء يجيدون عرض مهاراتهم/إن صنعاء غير التي في دمي/لا يراها سوى الحلم، نافرة،/ولها جسدان وشمسان/فاهبط على سلم من مرايا الحروف/وصفّق إذا ما وصلت أقاصي المدينة. (تحت صنعاء مدن كثيرة متعددة الأسماء اغتالتها اصابع الزمن ذات يوم صرخ أحد السواح: /صنعاء تنام تحت صنعاء/بدأ الحفر بأظافره/وجد سلماً من الرخام/يؤدي إلى غرف ذات ضوء/صاعق/والى سلالم مغطاة بسجاجيد ناعمة/في واحدة من هذه الغرف/رأى مسرجة من المرمر الأبيض/كانت تتحدث بلغة لا يفهمها/ورأى أشخاصاً نائمين/يتأهبون للصحو/وبجوارهم سيوف من الذهب الخالص/وقبل أن يسعفه الجنون/كان في طريقه إلى المطار). القصيدة الثامنة والعشرون: هي واضحة مثل كف صغير لطفل/ومبهمة كالأساطير /خمسون عاماً من العشق/لم يقرأ القلب في الجسد المتفتح للضوء/إلا خطوطاً تداعبها الريح/أو ألَقَاً يتناثر فوق النوافذ/يا حطب القلب أوقد نشيدك /وارحل بعيداً/إلى حيث تخفي الجميلة/أسرارها/وتمهل إذا ما وصلت إلى "الكنـز" /لا تفضح السر/إن الهوى كلف بالرموز. (يقول العام التاسع والخمسون/إن هذا الكهل حين يتمكن من اكتشاف روحه/قد يتمكن من اكتشاف بعض الأسرار/المدونة داخل الأبواب السبعة لهذه المدينة/التي لا تخضع للامتثال أو الانكشاف/وبلا خجل أقول:إنني بعد كل هذا الزمن/لاأستطيع الاقتراب من دهاليز الروح/ ولا من قراءة الكتابات الضوئية/المدونة على الجدران العتيقة لصنعاء/ويصور لي الوهم -أحياناً- أن طفل المساء/يستطيع بسهولة أن يقرأ ما وراء الغيوم الفضية/التي تقترب من جبالها الصخرية الملساء). القصيدة الأخيرة: كل آجرة فيك/كل المآذن كل الحجارة/تشكره/تشكر الله/أجرى مياه الجمال بآجرها ومآذنها/ومنازلها/والقصيدة/كل التماعة حرف بهذي القصيدة/تشكره/تشكر الله ألقى بها قطرة من رذاذ/تناثر من بحر أندائه/فأضاءت /ومن ماء قلبي، استوت/موجةً، موجةً/وكتاباً، كتابا. (قادني قميص الكلمات/وقاد الحروف العمياء/إلى أحياء المدينة العتيقة /فاستعادت الحروف ذاكرتها/وبصرها/رأت رخام اللغة يتدلى بين السماء والأرض/وضوء المعنى يبرق/ويتنـزل من قمة العرش/لم يكن حلماً/كان حقيقة مبتلة بندى الليل/ونشوة النهار الأخضر) *صراخ بحجم وطن – عدنان الصائغ – نموذج (السيرة/الشعر): عدنان الصائغ أكثر شعراء جيله، التصاقاً بالذاكرة، ففيها يحيى وعليها يموت! ومنها يحاكم (كسر الميم) واليها يحتكم، وماذا نتوقع من شاعر اهدر صباه وشبابه في جحيم لا شأن له به! كان مثل قدر أعمى لن تفلت منه الضحية، وإذا قدر لك أن تقرأ شعره وتحترق بحرارة صوره وعناءاتها! فاعلم ان حياته على مساحة الواقع كانت أشد احتراقاً وأمر إيلاماً.. ومنا هنا جاءت قصائده منذ بواكير دواوينه ترجمة أمينة لكوابيسه التي تأخذ بخناقه نائما ويقظاً، وكوابيس الوطن معاً، حتى ليمكن القول انك لن تقترب من عذابات الوطن -كما ينبغي- مالم تقرأ قصائد عدنان الصائغ، ولن تقرأ عذابات عدنان الصائغ ما لم تقرأ عذابات العراق.. فقد وحّد الصائغ منذ بواكير أعماله بين الذات والقصيدة وبينهما وبين العشق، وبينهم وبين الوطن.. وقد حاولنا في هذه الدراسة كما في الدراسات السابقة الإمساك بنص واحد لا يمت إلى الذاكرة بأدنى صلة –حتى- فلم نعثر عليه!!! ومن هنا أيضاً تكمن (الشعرية) عند عدنان، فذاكرة الشاعر الموهوب المعذّب بأحلامه أوسع مساحة من بحور الدنيا وأعمق! وقصائد عدنان في بلورتها الأولى سيرة ذاتية لعدنان والإنسان والوطن فهؤلاء الثلاثة حالة واحدة!! والنصوص التي نختارها لاحقاً متباعدة الأزمنة، والأمكنة بيد أنها فصول في رواية واحدة!!: *(حنين): لي بظل النخيل بلاد مسوّرة بالبنادق/كيف الوصول إليها/وقد بعد الدرب ما بيننا والعتاب/وكيف أرى الصحب/من غُيبوا في الزنازين/أو كرشوا في الموازين/أو سُلّموا للتراب/إنها محنة بعد عشرين/أن تبصر الجسر غير الذي قد عبرت/السماوات غير السماوات/والناس مسكونة بالغياب. *(العراق): العراق الذي يبتعد/كلما اتسعت في المنافي خطاه/والعراق الذي يتئد/كلما انفتحت نصف نافذة/قلت: آه/والعراق الذي يرتعد/كلما مرَّ ظل/تخيلت فوّهة تترصدني/أومتاه/والعراق الذي نفتقد/نصف تاريخه أغان وكحل/ونصف طغاة. *ثلاثة مقاطع للحيرة: (1)قال أبي:لا تقصص رؤياك على أحد/فالشارع ملغوم بالآذان/كل أذن يربطها سلك سرّي بالأخرى/حتى تصل السلطان. (2)بعد أن يسقط الجنرال من المشنقة/بعد أن يرسم الطير دورته/في الهواء الطليق/بعد أن تتخضب راياتنا بالدماء/ما الذي نفعل. (3) جالساً بظل التماثيل/أقلّم أظافري الوسخة/وأفّكر بأمجادهم الباذخة/هؤلاء المنتصبون في الساحات/يطلقون قهقهاتهم العالية/على شعب/يطحن أسنانه من الجوع/ويبني لهم أنصاباً من الذهب والأدعية. *(بيادق): بيدقني السلطان/جندياً في حرب لا أفقهها/ لأدافع عن رقعة شطرنج/أم وطن/لا أدري/أم حلبة/ولهذا أعلنت العصيان/لكن الجند الخصيان/قادوني معصوب العينين إلى الخشبة/وأداروا نحوي فوهات بنادقهم/فصرخت: قفوا/ستجرّون على هذي الرقعة أيضاً/كبشاً بعد الآخر/كي تعلو –فوق سلالم اشلائكم- التيجان. *(قادة): ستعرفينهم من الأحذية التي تركوها/قبل أن ينهزموا/ستعرفينهم بالتأكيد/هؤلاء الذين ملأوا منابر المدينة/بطبول بطولاتهم/ترى أين نجدهم الآن/لنعرف كيف سمعوا قبلنا/بأول الطلقات/نحن الذين كنا مجرّد آذان. *(رقيب داخلي): منذ الصباح/ وهو يجلس أمام طاولته/فكر أن يكتب عن ياسمين الحدائق/فتذكر أعواد المشانق/فكّر أن يكتب عن موسيقى النهر /فتذكر أشجار الفقراء التي أيبسها الحرمان/فكّر أن يكتب عن قرنفل المرأة العابق في دمه/فتذكر صفير القطارات التي رحلت بأصدقائه/إلى المنافي/فكّر أن يكتب عن ذكرياته المتسكعة تحت نثيث المطر/فتذكر صرير المجنـزرات التي كانت تمشط شوارع طفولته/فكّر أن يكتب عن الهزائم /فتذكر نياشين العقداء اللامعة على شاشات الوطن/فكّر أن يكتب عن الانتصارات/فتصاعد في رأسه نحيب الأرامل/ممتزجاً برفات الجنود المنسيين هناك/……/في آخر الليل/وجد سلة مهملاته مملوءة/وورقته فارغة بيضاء ملحق ) السيرة والرواية) إشارة: اقتبسنا المعلومات التي توفّر عليها هذا الملحق من كتاب (حدود العصور حدود الثقافات-دراسة في الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية) تأليف الدكتورة سفيتلانا براجوغينا وهي من أبرز المستشرقين المهتمين بالأدب والفن في أقطار المغرب العربي. فالكتاب بحق موسوعة في رواية السيرة في المغرب والجزائر وتونس، لأنه ينصص ويحلل ويؤول ويستنتج ونظن أن ترجمته قد أسدت للأدب العربي خدمة كبرى يعرفها المشتغلون في هذا الحقل، وما كان لهذا الكتاب أن يلثم أعين القراء العرب لولا جهود المترجمين د.ممدوح أبو الوي و د.راتب سكر، وقد استأذنت د.راتب سكر بنشر هذا الملحق (حرفياً) فأذن لي خطّياً في 31/1/2000 صنعاء. قارن الاقتباسات الحرفية . 1- ندرس في هذا الفصل فقط المؤلفات التي تروي سير الكتاب ولكنها تشبه الرواية لأن عنصر الخيال يلعب دوراً كبيراً فهي تبتعد عن الوثائقية ولذلك تجنبنا السيرة الذاتية للكتاب مثل سيرة منصور حمروش، حكاية حياتي ويوميات فرعون لأنها أقرب إلى الوثائقية منها إلى العمل الأدبي الذي لا يمكن ان يستغني عن الخيال والصورة التي يخلقها الروائي والأحداث والعقدة والحل..ص45. 2- كما هو معروف أن جنس السيرة يحتل مكانة هامة في تاريخ آداب كثيرة. يكفي أن نتذكر السير العديدة للكتّاب الروس والألمان والإنكليز والأمريكيين والفرنسيين التي تعتبر كنـزاً من كنوز الأدب العالمي مثل ثلاثية ليف تولستوي (الطفولة) التي صدرت1852 والمراهقة1854 الشباب1856 ونتذكر ثلاثية مكسيم غوركي 1868-1936 ولقد صدرت الطفولة لمكسيم غوركي في عام1914 ومع الناس1916 وجامعاتي1922 وكتب هيرتين واكساكوف وكورلينكو وبونين وغارين ميخايلوفسكي وسيرافيما فيتش، وكتب الأديبان الفرنسيان جان جاك روسو وميوسيه والشاعر الألماني غوته والكاتب الإنجليزي تشارلز ديكنـز وأدباء آخرون. تقدم هذه السير دليلاً حياً على أن هذا الجنس الأدبي الذي يتحدث عن مصير الإنسان وتجربته الحياتية. يصبح تجسيداً للحياة الإنسانية العامة من خلال التجربة الفردية المحدودة والقريبة الملموسة ص46. 3- إن كتب منصور حمروش ذات أهمية كبيرة مثل كتاب حكاية حياتي وسيرة ملكولم الذاتية التي تقع مثل أي عمل إبداعي آخر. في منتصف الطريق بين الواقع والخيال فهي عمل إبداعي فني مفيد حتى لأولئك الذين يبحثون عن التسلية وقتل الوقت وتفيد المستويات الرفيعة من القراء الذين يبحثون عن أهداف الأدب السامية عندما يشعر الأديب برغبة في أن يلعب دور شاهد على زمانه من أجل هذه الشهادة يقدم حقائق من حياته الخاصة وآنذاك تخرج الحياة الخاصة عن إطار الفردية لتصبح عامة آنذاك يصبح الخاص عاماً ص 46. 4- في الأقطار العربية عبّر جنس السيرة الذاتية عن نفسه في العشرينات من القرن العشرين كجنس أدبي مستقل وكتاب الدكتور طه حسين (الأيام) كتاب معروف صدر عام1929 ورأى فيه أندريه جيد (نصراً للشعلة الروحية في ظلام الحياة) ولقد تُرجم هذا الكتاب إلى لغات عالمية كثيرة مباشرة بعد صدوره وأصبح هذا الكتاب نموذجاً لهذا الجنس الأدبي في العالم العربي تقاس به جودة السير الذاتية ويرى الناقد الفرنسي ف.مونتيه (ان أحد المواضيع المحببة في الأدب العربي موضوع الحديث عن الطفولة وسنوات الدراسة في الكتاب) ولابد من الإشارة إلى أن هذا الموضوع الهام موضوع السيرة بالنسبة للكتّاب الذين اهتموا بالتحدث عن الحياة الخاصة مصدراً لإدارك الحياة القومية ونظر هؤلاء الكتاب إلى الحياة الخاصة كجزء من الحياة الشعبية العامة وعالجوا هذا الموضوع حسب التقاليد المعروفة لهذا الأدب القومي أو ذاك ص 46. 5- ليس من قبيل الصدفة أن يكتب الأديب الجزائري مولود فرعون -الذي يعتبر من أوائل الأدباء العرب في المغرب الذين كتبوا فن السيرة- في مقدمة كتابه (نجل الفقير) الذي صدر1951 أنه قرأ الأديب الفرنسي جان جاك روسو والروائي الإنجليزي تشارلز ديكنـز وقرأ أدباء عالميين آخرين ويتمنى أن يقوم بمثل العمل الذي قاموا به وهو أن يتحدث عن حياته الخاصة لأن الرحلة إلى الحياة الخاصة هي بداية رحلة جادة واستيعاب حقيقي للواقع بالنسبة للأدب في المغرب بوجه عام. ص47. 6- كانت السيرة الذاتية في الأدب العربي المغربي أصيلة، مع وجود بعض التشابه في معالجتها، سمّى مولود فرعون كتابه رواية علماً بأن (نجل الفقير) بحجمه وحبكته أقرب إلى القصة المتوسطة الحجم منه إلى الرواية؛ وتعالج القضية موضوع تربية الشخصية في ظروف اجتماعية وتاريخية وحياتية معينة، وإذا اتخذنا أحد التعاريف المتداولة لرواية التربية كطريق للتصوير الفني، انها عملية إدراك البطل لنفسه في العالم المحيط به وعلاقته الجدلية بالوسط المحيط الذي ربّى وشكّل تصوراته ومفاهيمه حول الحياة والعالم والتي تحدد طبيعة علاقته بالوسط الاجتماعي الذي ترعرع فيه ومن الضروري الأخذ بعين الاعتبار أن مولود فرعون لم يكتب مؤلفات فنية فحسب وإنما قام أيضاً بتنفيذ طلب اجتماعي لأن نجل الفقير يعتبر بداية سيرة للنشر الفني الجزائري، هؤلاء نحن وكيف نعيش وهذا حلم مولود فرعون ان يتحدث عن حياة شعبه بصوت واحد من ممثليه وحقق حلمه بتجربته النثرية الفنية المستقلة الأولى باللغة الفرنسية ص48. 7- يصور مولود فرعون في نجل الفقير سيرة حياة هذا البطل وبذلك فان هذه الرواية تنسجم مع روايات السيرة ولها كافة الصفات التي تتصف بها روايات السيرة، ولكل سيرة مميزات خاصة بها لا تتكرر في السير الأخرى وهو الهدف الذي يقصده المؤلف من روايته فيرى الكاتب أحياناً أن يضمن عمله الأدبي بعض اعترافاته وأحياناً أخرى يرغب الكاتب في العمق في تكوين الطبيعة الإنسانية بوجه عام وفي التغلغل في العالم الداخلي والعالم النفسي ص 50. 8- قال الأديب الروسي مكسيم غوركي (1868-1936) (يجب تصوير الماضي من أجل توضيح معالم طريق المستقبل) ومن اجل تحقيق هذا الهدف يسعى مولود فرعون الى تصوير المجتمع بكامله بتقديم بعض الحقائق عن حياته ولقد استطاع الكاتب بتصويره للفلاحين ان يقدم صورة كاملة للمجتمع الجزائري بكامله بعمق وبدقة وان يقدم لنا الصفات الأساسية للشعب الجزائري ص50. يصور الكاتب ابناء الفلاحين الذين خرجوا من اعماق الأرض ومن حضنها، انهم ابناء الأرض، البطل الذي لا يمكن ان ينفصل عن ارضه وعن وسطه؛ كان طريق البطل طريق ادراك الذات كجزء من الكل كجزء من الشعب، كان البطل مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بوسطه وهذه صفة من صفات جنس السيرة ص 53. 9
يتبع ...