اهلا بك زائرنا الكريم

تاريخ التسجيل : 01/09/2015

الطائفة المنصورة بالمغرب - مقال للشيخ اللغوي عصام البشير
الطائفة المنصورة بالمغرب - مقال للشيخ اللغوي عصام البشير

إن الله تعالى يفاضل بين الأمكنة والأزمنة، فيجعل لبعضها مزية على بعضها الآخر، وذلك وفق حكمته البالغة التي لا ندرك منها إلا ما جاءنا في كتابه أو سنة نبيه. وقد ورد في نصوص الوحيين فضائل كثيرة لبعض البقاع، كما تزيّد بعض المتعصبين لأوطانهم فضائل أخرى لم تثبت، فوضع بعض الجهلة أحاديث في فضل بعض الأمكنة، وتأول آخرون بعض الأحاديث الصحيحة على ما يوافق مقصدهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومما وقع في هذا الباب، أنه اشتهر عند كثير من المغاربة أن الطائفة المنصورة التي لا تزال ظاهرة على الحق إلى قيام الساعة، موجودة بالمغرب، واستدلوا على ذلك بالحديث الذي سيأتي بيانه.
وقد يظن بعض الناس أن هذا لا يعدو أن يكون لونا من ألوان التعصب الوطني الذي لا ينبني عليه أثر. والحق أن الأمر أكبر، وذلك للأوجه الآتية:

· الوجه الأول: أن جماعة من المتأخرين عموما، والمعاصرين خصوصا يستدلون بذلك على أن أهل المغرب هم أصحاب الدين الصحيح في كل مسألة من مسائل الخلاف الكبرى، لأنالطائفة المنصورة منهم. ومن أخطر ما يقع في هذا الباب، أن من هؤلاء المستدلين قوما من المسوغين للبدع والضلالات المنتشرة في بلاد المغرب في هذه الأعصار المتأخرة. ومن الطريف أن بعض المعاصرين استدل بهذه القضية على صحة رؤية هلالي رمضان وشوال في المغرب الأقصى، وغلط المخالفين من المشارقة(1)!..

· الوجه الثاني: أن بعض المتسرعين يرمون العلماء المخالفين لهذا التأويل، والذين يحملون الحديث على أهل الشام، بالتعصب لبلادهم، ويصورون القضية على أنها نزاع بين علماء بلدين، يتعصب بعضهم لبلده الشام فيحمل الحديث عليه، ويتعصب آخرون لبلدهم المغرب فيحملون الحديث عليه ! ولا يخفى ما في هذا من سوء ظن بأئمة الإسلام المعتبرين.

· والوجه الثالث: أنه قد يقع الاعتماد على هذا الاستدلال من بعض المغاربة، فيترك العمل أو يقلّ منه، بزعم كونه في بلد الطائفة المنصورة، بنص الحديث. وفي هذا مفاسد عظيمة.

· والوجه الرابع: أن هذا الاستدلال حملٌ لسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، على غير ما أريد بها، وهذا مخالف للأدب الواجب مع السنة المطهرة.
لأجل هذه الأوجه، رأيت أن أكتب في شرح ما وقع من الغلط في فهم الحديث، وبيان المعنى الصحيح له.

من جهة الصناعة الحديثية
قال الإمام مسلم في صحيحه(2):
حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا هشيم عن داود بن أبي هند عن أبي عثمان عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة).

وقد أخرجه جماعة من طرق عن داود بن أبي هند به، منهم أبو يعلى في مسنده (رقم 783)، والبزار في مسنده (رقم 1222)، وابن الأعرابي في معجمه (رقم 290 وغيرها)، وغيرهم.

وجاء الحديث بلفظ (أهل المغرب) عند أبي عوانة في مستخرجه (رقم 6045) وأبي نعيم في الحلية (في ترجمة داود بن أبي هند) وغيرهما.

وعزاه الحميدي في (جذوة المقتبس) لمسلم في صحيحه، وفيه نظر. إلا أن يكون ذلك في نسخة خاصة يتداولها أهل الأندلس، وفيه بعد.

وجاء الحديث عن المغيرة بن شعبة، عند أبي نعيم في معرفة الصحابة (5636) بلفظ: (لا يزال أهل الغرب ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله).

أقوال العلماء في معناه
اختلف العلماء في المراد بلفظ (الغرب) في الحديث المذكور، وذلك على أقوال:

القول الأول:
هم العرب، و(الغرب) لغة: الدلو الكبيرة، كما في حديث الصحيحين: (ثم استحالت غربا). قالوا: والعرب مختصون بهذه الدلو. وهذا القول مذكور عن علي بن المديني.
القول الثاني:
المراد أهل القوة والشدة في الحروب، وذلك لأن غرب كل شيء حده.

القول الثالث:
المراد المعنى الجغرافي للغرب، ويتقوى بالروايات الأخرى التي فيها لفظ (المغرب)، إذ لا يستقيم على القولين الأولين.

ثم اختلف أصحاب هذا القول، فقالت جماعة: هم بالشام عموما، وقال آخرون: هم بأكناف بيت المقدس خصوصا. وقالت طائفة: المراد المغرب الأقصى والأندلس. وقالت طائفة بالعموم، فيكونون بالشام ومصر والمغرب.

وممن قال بأن المراد مصر: السيوطي فقال في الديباج (4/514):

(لا يبعد أن يراد بالمغرب مصر فإنها معدودة في الخط الغربي بالاتفاق. وقد روى الطبراني والحاكم وصححه عن عمرو بن الحمق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تكون فتنة أسلم الناس فيها الجند الغربي) قال ابن الحمق: فلذلك قدمت عليكم مصر. وأخرجه محمد بن الربيع الجيزي في مسند الصحابة الذين دخلوا مصر، وزاد فيه: وأنتم الجند الغربي. فهذه منقبة لمصر في صدر الملة واستمرت قليلة الفتن معافاة طول الملة لم يعترها ما اعترى غيرها من الأقطار، وما زالت معدن العلم والدين، ثم صارت في آخر الأمر دار الخلافة ومحط الرحال ..) إلى آخر كلامه رحمه الله.

من حمله على المغرب الاصطلاحي

قال جماعة من علماء المغرب بأن المراد بالحديث أهل المغرب الاصطلاحي، وهو الذي يمتد بعد مصر، إلى أن يشمل المغرب الأقصى والأندلس.

ومن أشهر من قال بذلك: أبو بكر الطرطوشي فقال في رسالة بعث بها إلى أقصى المغرب(3): (والله تعالى أعلم هل أرادكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أراد بذلك جملة أهل المغرب، لما هم عليه من التمسُّك بالسُّنة والجماعة، وطهارتهم من البدع والإحداث في الدِّين، والاقتفاء لآثار من مضى من السَّلف الصالح).

ومنهم الإمام الحميدي، قال في (جذوة المقتبس): (وهذا النص وإن كان عاماً لما يقع عليه، فللأندلس منه حظ وافر لدخولها في العموم، ومزية لتحققها بالغرب وانتهاء آخر المعمور فيه، وبعض ساحلها الغربي على البحر المحيط، وليس بعده مسلك).

وجعل العلامة زروق الحديث المذكور دليلا على أرجحية مذهب مالك، لأن أهل المغرب لا يعرفون غيره. قال رحمه الله(4): (ويكفي في راجحيته (يعني مذهب مالك) كونه إمام دار الهجرة في خير القرون، ومتبوع أهل المغرب الذين لا يزالون ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة كما صح في الحديث، وإن اختلفت رواياته..)

وقال الشاعر:

للغرب فضل شائع لا يجهل == ولأهله شرف ودين مكمل
ظهرت به أعلام حق حققت == ما قاله خير الأنام المرسل
فلأهله حتى القيامة لن يزالوا ظاهرين على الهدى لن يخذلوا

وممن استدل بالحديث: محمد بن تومرت، مدعي المهدية، واعتمد على ذلك في دعوة الجهلة والأغمار إلى نحلته الضالة، التي سفك بها الدماء، وروع الآمنين، وأقام صرح البدعة بالمغرب.

يقول لأصحابه – كما في ترجمته من سير أعلام النبلاء -: (ما في الأرض من يؤمن إيمانكم، وأنتم العصابة الذين عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يزال أهل الغرب ظاهرين)،وأنتم تفتحون الروم، وتقتلون الدجال، ومنكم الذي يؤم بعيسى..).

وهذا مثال على ما ذكرتُه في المقدمة من تسويغ البدعة بهذا الاستدلال الخاطئ.
الحديث يتناول الشام بالأصالة

هذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، وجعل هذه الرواية التي فيها ذكر الغرب في آخر الباب على طريقته المعروفة في ترتيب كتابه من الأصح إلى ما هو دونه في الصحة. أما الرواية التي فيها التصريح بلفظ (المغرب)، فإنها – على فرض صحتها – قد تحمل على تصرف بعض الرواة في اللفظ، وروايته بما فهموه من معناه.

والظاهر أن الحديث يتناول الشام بالأصالة، ومرجحات ذلك كثيرة منها:

1. أن الشام يوجد غرب المدينة، أو على الأصح في الشمال الغربي، وذلك أننا إذا اعتبرنا المدينة النبوية مرجعا، فإن سمت القدس سبع وعشرون درجة من الشمال، وسمت فاس خمس وستون درجة، وسمت مجريط (مدريد) خمس وخمسون درجة. ولا يكون الغرب المحض وهو تسعون درجة إلا في أقاصي جنوب الصحراء، نحو ما يسمى اليوم السنغال.

وعلى هذا فليس المغرب الأقصى والأندلس بأولى من الشام في الغرب الجغرافي، فكل هذه البلاد ليست في الغرب المحض، وإنما هي في الشمال الغربي على تفاوت بينها في السمت.

وهذا كما أن العراق يعد في شرق المدينة لغة وعرفا، مع أنه في الشمال الشرقي، وفي الدرجة الرابعة والعشرين تقريبا انطلاقا من سمت الشمال.

2. أن أهل المدينة يسمون الشام غربا، ويقولون عن الأوزاعي مثلا: إمام أهل المغرب، كما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(5).

3. أن الأندلس لم تعد دار إسلام منذ أكثر من خمسة قرون. وهذا يناقض نص الحديث: (لا تزال طائفة..) المفيد للتأبيد. ولا يحل الإشكال إلا بأن يقال إن الأندلس ليست داخلة في لفظ (الغرب) المذكور في الحديث. وإذا خرجت الأندلس خرج سائر بلاد المغرب، إذ لا قائل بالتفريق بينها. ويبقى حمل الحديث على الشام سالما من هذا الإشكال.

4. أحاديث الملاحم وفتن آخر الزمان، وخروج المهدي، ونزول المسيح عليه السلام أغلبها تدور في الشام. فالأصل أن تكون الطائفة المنصورة هناك.

5. الجمع بين الروايات يقتضي أن أهل الغرب هم أهل الشام بأكناف بيت المقدس. وخير ما فسر به الحديث الحديثُ نفسه. فقد أخرج الإمام أحمد عن زيد بن أرقم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين وإني لأرجو أن تكونوا هم يا أهل الشام)

وأخرج أيضا عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم الا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك قالوا يا رسول الله وأين هم قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس).

فضل الله واسع

إذا علم أن الصحيح كون الطائفة المنصورة في الشام عموما، وفي أكناف بيت المقدس خصوصا، فإننا لا ننكر أن فضل الله واسع، وقد يقال بدخول أهل المغرب في هذا الخير من هذا الباب.

لكن ذلك يقتضي التشمير في العمل، وتصحيح المفاهيم العقدية، وعدم الاتكال على المبشرات ولو صحت يقينا، فكيف بما كان موضع نزاع؟

والله الموفق.

———————
1- ومما يستدلون به أيضا في هذا الباب قولة ابن جبير في رحلته (ص 55): (وليتحقق المتحقق ويعتقد الصحيح الاعتقاد: أنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب، لأنهم على جادة واضحة لا بنيات لها. وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية فأهواء وبدع، وفرق ضالة وشيع، إلا من عصم الله عز وجل من أهلها). ويتجاهل المستدلون بذلك أن المراد بأهل المغرب في كلامه: (دولة الموحدين) كما صرح بذلك في قوله بعد: (كما أنه لا عدل ولا حق ولا دين على وجهه إلا عند الموحدين، أعزهم الله، فهم آخر أئمة العدل في الزمان ..). وإذا علمت حقيقة المعتقد المنحرف الذي بنى عليه ابن تومرت دولته، بان لك قيمة هذا الاستدلال!
2- كتاب الإمارة (ح: 5067) باب قوله: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق).
3- المفهم للقرطبي (3/764) والديباج (4/513).
4- شرح الرسالة (1/22).
5- مجموع الفتاوى (4/446).

توقيع : فهد ناصر