النقاد يتحدثون ، محمد مندور و تنظير النقد العربي
النقاد يتحدثون ، محمد مندور و تنظير النقد العربي
الدكتور محمد برادة يتحدث عن
محمد مندور و تنظير النقد العربي
يقول برادة في مقدمته : ( من بين الأسباب التي حدت بي إلى اختيار دراسة أعمال الناقد محمد مندور ، ما لاحظته من تفاوت مستمر بين النقد العربي المعاصر والنقد الغربي : ذلك أن ثقافتنا تتأخر دائما في التعرف على الاتجاهات والمذاهب الأجنبية ، وكثيرا ما يتم التعرف بعد أن تصبح تلك الكتابات مستنفذة لأغراضها عند من صاغوها ) .
ويقول في موضع آخر : ( خلال إقامتي الدراسية بمصر " من 1955 إلى 1960 " كانت كتابات محمد مندور تملأ الصحائف والأسماع ، وكان صاحبها يواصل بالجدية والصدق اللذين عرف بهما منذ 1944 ، نضاله ومعاركه لبلورة مذهب أطلق عليه " المنهج الأيديولوجي في النقد " ، إعتقادا منه أن هذا الاتجاه هو الذي سينقذ النقد العربي من ضعفه ، لأنه حصيلة مسار خصب متنوع ، ولاشك أن المناخ المحموم الناجم عن صعود فكرة القومية العربية والفهم العاطفي الذي طرحت به قد قوى من وهم الخلاص عن طريق بلورة أيديولوجية متميزة ، وسحبها على كل المجالات ).
وفي نهاية المقدمة يبسط برادة أسباب اختياره لمندور ، ومن أهمها في رأيه عدة حقائق من بينها :
( الواقع أن حالة مندور جد متميزة : فهو لم يكن مجرد ناقد متخصص منغلق على نفسه . كانت نشاطات واهتمامات أخرى تضفي عليه بحق طابع " المثقف العضوي " ، ومن ثم لا يمكن موضعته ، أو فهم اعماله بدون اعتبار المرحلة التاريخية المرحلة المتأججة التي عاشتها مصر من سنة 1940 إلى 1950 ، أي طيلة سنوات الفاعلية في حياة مندور .
استبعدت ، وأنا أعيد تصوير العلائق بين مندور ومجتمعه مفهوم " السيرة اللدنية " ، كما تجنبت القيام " بقراءة إبداعية " ليس لأن ناقدنا لم يكن مبدعا ، وإنما اقتناعا بأن كل كتابة هي في جوهرها نتاج جهد وذكاء ، وتستجيب لشروط مادية قابلة للتحليل .) .
وحول المراحل المميزة في حياة مندور يوضحها برادة كالتالي :
( أما عن الخطوط العامة لهذه الدراسة فقد استمددناها من استجواب أدلى به مندور لأحد النقاد ،وقسـّـم به مساره النقدي إلى ثلاث مراحل : تأثيرية ، وتحليلية ، ثم أيديولوجية .
على أنه إذا كانت قراءة كتبه تؤكد وجود هذه التنقلات المرحلية ، فإن السؤال الأساسي في رأينا هو : كيف تمت هذه التحولات ؟ وماهي العوامل المحددة داخل الحقل الثقافي الذي عاش فيه مندور ؟ وهل يتعلق الأمر بتطور مراد سعى إليه عن قصد ، أم أنه راجع إلى علائق موضوعية كانت توجه الحقل السياسي والثقافي ؟
أمام هذه الأسئلة ، رأينا أنه يتحتم اللجوء إلى "المدرسة النظرية " للتفرقة بين النوايا والتحقق ، وأيضا لفرز التجريبية عن الوعي الملائم ) .
توصيف المنهج :
في وصفه للمنهج الذي اعتمده في دراسة آثار مندور الأدبية يؤكد برادة انه شرع في بحثه متناولا " مندور " باعتباره " ذاتا " جابهت هذه الوضعية الثقافية بشروطها التاريخية .
ولا يمكن الزعم بأن هذا هو منهج علمي أو موضوعي بإطلاق : بل هو منهج يصدر عن رؤية أيديولوجية ولا يتحايل في إخفائها ، لكن ، بين التفضيل الإيديولوجي ، وبين موضوع التطبيق ، هناك إمكانية القيام بتحليل موضوعي نسبيا .
أهمية مندور النقدية :
على صعيد النقد الأدبي ، تكتسي أعمال مندور دلالة كبيرة داخل الحقل الأدبي المصري والعربي على السواء . فتكوينه الثقافي بالسوربون ، في الثلاثينيات ، هو الذي أمده بأدواته ومصطلحاته ومنهجيته ، لتقييم الآثار الأدبية وتوجيهها .
وشروط الممارسة الأدبية في مصر ، هي التي تفسر لنا ، إلى حد كبير ، استمرار هذا النوع من الكتابة النقدية في شكل محادثة ، تأخذ من كل شيء بطرف ، وتجمع بين التاريخ والتحليل والتمحيص اللغوي ، والتصنيف على أساس مصطلحات مستعارة من فروع معرفية متمع السلامةنة .
وإذ يشعر برادة أن تناوله لكتابات مندور قد اتصفت بالتأكيد على الجانب السلبي يقول :
( هل نغالي إذا قلنا ، تدقيقا ، بأن مفهومه للتنظير مفصولا عن ممارسة نظرية ، هو الذي سجنه داخل مجموعة من التعريفات والمقولات العاجزة عن التقاط الظواهر والانتاجات الأدبية فيما تتوافر عليه من صيرورة نوعية ، وفيما تستلزمه من أشكال جديدة ملائمة لمضامينها : وإذا كمان مندور يعبر أحيانا عن ضرورة اعتبار خصوصية المجتمع المصري والثقافة العربية ، فإنه لا يتعدى ذلك إلى إعادة النظر في الأشكال التعبيرية المأخوذة من الغرب في مطلع هذا القرن ) .
ثم يعود برادة ليضع نتيجة للأسباب التي اقترحها ، فذكر أنه ( نتيجة لذلك ، فإن تلك الأشكال المرتبطة بتشكيلات اجتماعية وإيديولوجية محددة استمرت في إمداد مندور ، ونقاد آخرين ، بمقاييسهم وتصوراتهم النظرية : لأن الممارسة النظرية عندهم تتخذ كمسلمة ثابتة ، نظرية الأجناس الأدبية كما تحددت عبر مسار تاريخ الأدب الأوربي ) .
ويكون اللحن الأخير على نفس النغمة المائزة التي استمرت طوال الفصول السابقة غير أنها تأخذ هنا شكل القرار :
( من هذا المنظور ، يلتحق مندور وكتاباته ومواقفه ، بالمواد " المجربة " التي أفرزها الحقل الثقافي للعالم العربي ، ومجموع هذه المواد تصبح مع مواد أخرى وعوامل ثانية ، مقفزا نحو آفاق جديدة ) .
وبذلك ينتهي عرضنا لكتاب من أهم الكتب النقدية التي صدرت خلال الخمسين سنة الأخيرة كما يجمع على ذلك النقاد المعاصرين .
وفي ذكرى مرور أربعين سنة على وفاة مندور ستصدر خلال أيام الطبعة الجديدة من الكتاب عن المجلس الأعلى للثقافة المصري بالمعرض الدائم بأرض الجبلاية بالقاهرة ، وهو يقومـ أي المعرض ـ بخصم مقداره 50% على كافة مطبوعاته لأعضاء اتحاد الكتاب المصري ، وربما للضيوف العرب كما تعودنا في المؤتمرات الثلاث الأخيرة!
فصول الكتاب :
في الفصل الأول : " مندور والمثاقفة أو المرحلة التأثيرية " ، حاول فيه الكاتب تحديد العوامل الأساسية في التكوين الثقافي لمندور ، دون أن يغفل دور الثقافة العربية في ذلك ، وألح برادة على تأثره بالثقافة الغربية خلال إقامته الدراسية بباريس ( 1930 ـ 1935) ، ذلك التأثير المتجلي في منحاه النقدي للمرحلة الأولى ، والواضح في استحيائه لأعمال الناقد كوستاف لانسون .
في الفصل الثاني : " الحقل الأدبي في مصر من 1936 إلى 1952 " أراد من خلاله الباحث أن يملأ فراغا ملحوظا في التحقيب الذي أعطاه مندور لمساره ، ويتعلق الأمر بالفترة المتراوحة بين 1944 و 1952 حينما انخرط في العمل السياسي مبتعدا بصورة مؤقتة عن النقد الأدبي . ويذكر الباحث أنه كان يمكنه أن يترك تلك الفترة في زوايا النسيان ، لكنه رأى أنه من غيرها لا يستطيع أن يتبين الدوافع الحقيقية للتغيرات المتتالية التي عاشها مندور أو عرفها الحقل الأدبي المصري .
في الفصل الثالث : " مرحلة النقد التحليلي " وفيها يتفحص الباحث الكتابات التي نشرها مندور في الفترة بين 1954 و 1960 ، وهي توضح جوهر أفكاره ، وطاقاته النقدية المكتملة ، وهي في معظمها عبارة عن محاضرات ألقاها بمعهد الدراسات العليا للجامعة العربية .
وإذ كان يهدف من هذه الدراسات إلى تحليل الشعر المصري بعد شوقي ، فإنه لم يعد في مقاييسه يعتمد على الذوق التأثري فقط ، بل أخذ يجنح إلى اصطناع المنهج الاجتماعي التاريخي واعتبار الأدب قيمة حياتية عاكسة للصراع المجتمعي في كافة تحولاته الظاهرة والمضمرة .
وهذا بالتحديد هو ما جعله يدخل في خصومات جدلية مع الاتجاه التقليدي وبخاصة مع حواريي أمير الشعراء أحمد شوقي ، وبتوازٍ مع هذه الدراسات ، كان مندور يضطلع بمهمة تقديم المذاهب الأدبية والمسرحية والنقدية الأجنبية إلى القاريء العربي .
الفصل الرابع : " النقد الأيديولوجي والتنظير" ، وهو أوج البحث كما وصفه برادة نفسه في مقدمة الكتاب ، وكان يتحتم على الباحث إعادة تصوير الحقل الأدبي بمصر من 1952 إلى 1965 ، ولكن مثل هذه الدراسة التفصيلية تتعدى نطاق مشروعه ،: لذلك حاول سدا لهذه الثغرة ، استخلاص عناصر التغيير الحاسمة في الحقل الأدبي عن طريق عرض المناخ الأيد يولوجي السائد . ففعلا لم يكن بوسع مندور ، وسط الجو المحموم الناجم عن التسابق إلى الأدلجة ان يفلت من ميكانيزم التكييف . إلا أن هناك ، هذه المرة ، فرقا جوهريا : خلال الفترة الممتدة من ماقبل الناصرية وما بعدها تغيرت أشياء كثيرة ، ومن هذه التغيرات التي تهمنا ، وضعية مندور المثقف : كان كما قلنا ، مثقففا عضويا يناضل في حركة جماهيرية ضد الاستغلال البورجوازي والإمبريالي ، ولكنه بعد قيام نظام 1952 فقد الكثير من مظاهر هذه العضوية : ذلك ان الناصرية تبنت الشعارات والبرامج نفسها التي كانت تنادي بها الأحزاب السياسية التقدمية ، ومن ثم فالعلاقات العضوية مع الطبقات والشرائح والناهضة تحولت إلى ارتباط مع الناصرية قوامه " توظيف " هذه الطاقات دون إشراكها في المسئولية الفعلية للسلطة . ) .
خاتمة :
يؤكد مندور في ختام كتابه العلامة أن غرضه من البحث ليس هو إبراز القصور النظري والإيديولوجي لمحمد مندور ، أو تأطيره او تصنيفه تصنيفا ما ، بل هو يرمي من وراء هذه العينات المتولدة عن تحليلات موضوعية إلىالتأكيد على التفاعل المحدد للعلائق القائمة بين المجتمع والثقافة وبين المنتجين في هذا الحقل ، والعوامل الموجهة لنوعية الانتاج والاختيار ، وبخاصة حين يتعلق الأمر بمجتمع معرض للهيمنة الاقتصادية والتبعية الثقافية الأجنبية .
ويتوقف مندور في خاتمته أمام ظاهرتين واضحتين في الوضعية الراهنة للثقافة العربية ، وهما :
1ـ الطابع المثالي للتحليلات النقدية الأدبية في معظم كتابات النقاد الجامعيين ، وحتى " الدنيويين " المتحررين من طقوس الأكاديمية . عبثا نبحث في تلك الكتابات عن إضاءات تفسر الشروط الاجتماعية والسياسية المقترنة بكل إبداع ، أو تقدم تأويلا لنوعية الأشكال التعبيرية ولتطورتها .. ويندر أن نعثر على تحليل لطرائق التعبير لا تعتمد على الشرح البلاغي القديم ، أو المطعم بمقولات الكلاسيكية الجديدة .
2ـ الرجوع المستمر إلى مصطلحات ونظريات تنتمي إلى مناخات ثقافية تسبغ على استعمالها صفة التفوق في نظر القراء ، ولكن فهمهم لها يظل مستعصيا في معظم الأحيان . على أن الوعي المنادي بإعادة النظر في علاقتنا بثقافة " الآخر " لا يزال في بداياته ، ولا يزال يصادف عقبات كبيرة ، أهمها " الحماية ـ الذاتية " المتوفرة للاتجاه التقليدي لكونه ملتحما ومشخصا في قوى وبنيات اجتماعية سائدة ولا تزال .