التواصل بين علماء غرب العالم الإسلامي وشرقه - مقال للشيخ اللغوي عصام البشير
التواصل بين علماء غرب العالم الإسلامي وشرقه - مقال للشيخ اللغوي عصام البشير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد
فإن وحدة المسلمين اليوم من أعظم ما ينبغي التنافس وبذل الجهد في إقامة معالمه، وتوطيد دعائمه. ولا شك أن وحدة العلماء وحسن التواصل بينهم، من أقرب السبل إلى تحقيق وحدة عامة المسلمين. فالعلماء هم منارات الهدى التي يستضيء الناس بها، وينشدون سواء السبيل على نورها. فمهما يكن في صفوف العلماء من مزية ومحمدة، يظهرْ أثرها الجميل على عوام المسلمين؛ وبالمقابل، مهما يبدُ عليهم من منقصة أو مذمة، تبرز عاقبتها الوخيمة على الإسلام وأهله.
وعلى الرغم من معاني التآلف والتآخي التي يحرص العلماء في كل أصقاع العالم الإسلامي على إظهارها تجاه إخوانهم في البلدان الأخرى، فإن ظروفا موضوعية كثيرة تفرض نقص التواصل أو انعدامه بين علماء البلدان المتباعدة.
وهذا إشكال فرضه تمزق الأمة منذ زمن بعيد إلى دول مستقلة، مع تكرس مفهوم المواطنة الضيقة الذي حملته إلى الأمة العلمانية الزاحفةُ مع جيوش الاستعمار الغربي.
وإذا كان التواصل اليوم ضعيفا بين علماء الأمة الإسلامية عموما، ولا يرقى إلى المنزلة المنشودة، فإن المشكل أكثر بروزا في خصوص العلاقة بين شرق الأمة وغربها.
وهذه معضلة قديمة، تتابعت شكاوى العلماء من أثرها – خاصة منهم علماء المغرب – فقد اشتهر في التاريخ أن معرفة أحوال المغرب عند علماء المشرق أقل من معرفة أحوال المشرق عند علماء المغرب. بل تعدى الأمر صورةَ قلة المعرفة إلى صورة عدم الاعتراف! واشتهر قول ابن حزم رحمه الله في شكواه التي سارت بها الركبان:
أنا الشمس في جو العلـوم مـنـيرة = ولكن عيبي أن مطلعي الـغـرب
ولا ريب أن مثل هذه الإشكالات القديمة زادت بعض الشيء في عصرنا الراهن، مع أن حال التقدم التقني في وسائل الاتصال كان ينبغي أن يحلها ويلغي أثرها!
فما الأسباب التي تحول دون تمام التواصل بين علماء المشرق والمغرب؟
***
لست أنفي وجود هذا التواصل على سبيل الإطلاق، ولكنني أزعم أنه فردي محدود التأثير، أو عشوائي ضعيف التنظيم. ومن أسباب ذلك:
1. الخلافات المذهبية، سواء أكان ذلك في فروع الفقه أو أصول الاعتقاد. وتزداد حدة الخلاف، بسبب السياسات الرسمية المعلنة لبعض دول العالم الإسلامي، التي تتخذ مواقف مذهبية صارمة، تغذي الخلاف وتمنع حصول التآلف.
2. اختلاف المواقف السياسية في هذا العصر المشحون بتقلبات السياسة ونزاعاتها. وما أكثر ما يقع الجفاء بين عالِمين كبيرين، بسبب موقف سياسي اتخذه أحدهما، ولم يرضه الآخر!
3. حدة الانتماء الوطني الذي يكون حجر عثرة أمام وحدة الأمة. وقد صرنا نسمع دعوات كثيرة لأخذ الفتوى من علماء الوطن، دون علماء البلاد الأخرى. وقد تغلف هذه الدعوات بدثار رقيق من الاستدلال الشرعي، يشف عما وراءه من التعصب للوطن.
4. اختلاف البيئات الفكرية والثقافية، الذي يعسّر في بعض الأحيان حصول التفاهم في بعض المباحث الشرعية التي هي من قبيل تحقيق المناط.
5. انحصار كثير من المؤتمرات واللقاءات العلمية – التي تعد من أفضل فرص التواصل بين العلماء – في الصعيد الأكاديمي البحت، ولا يكون للشيوخ غير المنتظمين في التدريس الجامعي نصيب من ذلك، إلا في القليل النادر.
6. حال الانغلاق الذي تعاني منه الهيئات الموحِّدة للعلماء، بحيث لا تكون منفتحة على العلماء جميعهم، وإنما يشترط للانضمام إليها – في الغالب – شروط خاصة. وإلى حد الآن لا يوجد إطار جامع للعلماء جميعهم، بشرط التمكن العلمي فقط، يمكن من خلاله التواصل النافع بين علماء شرق العالم الإسلامي وغربه.
***
وإذا كانت العوائق بالخطورة التي بينت آنفا، فإن الذي يجمع علماء المشرق والمغرب أعمق بكثير من الذي يفرق بينهم.
فلا بد إذن من السعي الجاد الحثيث لتحقيق وحدة الأمة عن طريق توحد علمائها، وأول درجات ذلك التفكير في إطار جامع، يشترط فيه الرسوخ العلمي دون ما سواه، ويشرف على التأكد من ذلك لجنة علمية راسخة القدم في علوم الشريعة، مع التنبيه على ألا تكون الشهادة الأكاديمية هي المعيار الوحيد للانضمام لهذا الإطار.
كما ينبغي الحرص على تنظيم الزيارات المتبادلة بين شرق الأمة وغربها، خاصة من الشرق إلى الغرب، ليساعد ذلك على التعرف إلى البيئة المغربية، وتأقلم الفتوى المشرقية مع احتياجات هذه البيئة.
ويدخل في هذا الباب: تنظيم لقاءات علمية خارج الإطار الأكاديمي، هدفها: تقريب وجهات النظر، وتكثير دواعي الألفة، وإزالة موانع الاتفاق.
كما أن في الشبكة العنكبوتية فرصا جيدة للقاء والتواصل، عبر المنتديات العلمية، والغرف الصوتية، ومواقع التواصل الاجتماعي (وإن كان فيها شيء من الاختلاف، إذ المشاهد أن أهل الشرق أكثر اعتناء بموقع التويتر، وأهل المغرب بالفيسبوك)، فالواجب تنمية هذه الفرص، والاستعاضة بها عن كثير من اللقاءات المباشرة، التي قد تمنع منها ظروف مادية أو سياسية معينة.
والله الموفق.