دراسة السيرة النبوية - مقال للشيخ اللغوي عصام البشير
دراسة السيرة النبوية - مقال للشيخ اللغوي عصام البشير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فإن دراسة السيرة النبوية المطهرة، من أعظم ما ينبغي الاحتفاء به، والاعتناء بتحصيله، على عوام المسلمين وخواصهم، لما في ذلك من الفوائد الجليلة التي تعود عليهم في دنياهم وأخراهم.
ويكفي للاقتناع بأهمية الاطلاع على السيرة – بل التبحر فيها – أن يُعلم أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم من أصول الدين وقواعده، التي لا يتم إيمان المؤمن إلا بها. وهذه المحبة لا تستقر في قلب المسلم إلا بعد معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تمام المعرفة، وإلا كان التكليف بمحبته مع الجهل بخصاله وصفاته الخِلقية والخُلقية من باب التكليف بما لا يطاق! ومهما زادت معرفة المسلم بإمامه وقدوته – عليه الصلاة والسلام – فإن محبته في القلب تزيد وتعظم.
وإذا علمت أهمية دراسة السيرة النبوية، فإن من اللازم وضع الخطط المحكمة، واتباع المناهج الصحيحة لتحصيل ذلك، وإلا كانت قراءة فوضوية، لا تبني علما، ولا تؤسس قاعدة معرفية صلبة.
السيرة علم!
كانت السيرة في بداياتها فرعا من علمي الحديث والتاريخ، ثم ما لبثت أن استقلت، وصارت علما قائما بذاته، له مؤلفاته ومناهجه العلمية الخاصة.
ولا ريب أن الجانب الوعظي والدعوي في السيرة النبوية المطهرة عظيم القدر، جليل الشأن، ولكن لا ينبغي أن يغطي على الجانب العلمي فيها. فالسيرة تدرس كما تدرس العلوم الشرعية الأخرى، وبالمناهج نفسها – من حفظ وفهم ودراسة ومذاكرة ومطالعة ونحو ذلك -، وتزيد بأن فيها جانبا عظيما من ترقيق القلوب، وإصلاح النفوس، وتربية المهج على محبة صاحبها، الحبيب المجتبى صلى الله عليه وسلم.
وقد غلط في هذا الموضع أكثر العصريين، فتعاملوا مع السيرة في جوانبها الوعظية والدعوية فقط، وأهملوا الجانب العلمي الدقيق. ولذلك صرنا نرى أكثر طلبة العلم يطالعون كتب السيرة العصرية السهلة، التي تعنى باستنباط الفقه الدعوي والحركي وما أشبه ذلك، فيحصل لهم تقصير شديد في جانب تحصيل المعلومات المجردة، واختزانها في الذاكرة.
ولذلك يندر اليوم طالب العلم الذي يستطيع استحضار بعض المعلومات السهلة التي يقبح جهلها، مثل أسماء زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، أو نسبه الشريف، أو ترتيب الغزوات في الزمن، ونحو ذلك.
ولو أن الطالب حفظ في هذا الفن متنا جامعا، وأتقن فهمه، وذاكر هذا الفن في كتبه المعتبرة، لكانت هذه المعلومات حاضرة على طرف لسانه!
مصادر السيرة النبوية:
يمكن تقسيم مصادر السيرة النبوية إلى ثلاثة أقسام كبيرة:
أولها: المصادر الأصلية
وعلى رأسها القرآن الكريم، فإن فيه ذكرا لكثير من أحداث السيرة المكية والمدنية، ويستعان على فهمها بكتب التفسير، خاصة منها التفسير بالمأثور.
ثم كتب السنة التي تعقد أبوابا خاصة للمغازي والسير، ويضاف إليها ما في كتب الرجال والتراجم من التحقيقات العلمية لكثير من الأحداث المتعلقة بالصحابة خصوصا.
ومن ضمن كتب السنة: كتب الشمائل النبوية (ومن أشهرها الشمائل للترمذي، وأخلاق النبي وآدابه لأبي الشيخ، والأنوار في شمائل النبي المختار للبغوي .. )، وكتب دلائل النبوة (ومنها دلائل النبوة لأبي زرعة، وأعلام النبوة لأبي داود، ودلائل النبوة للفريابي والسرقسطي والطبراني وأبي نعيم والبيهقي ..)، وكتب الخصائص (وقد جمع أكثرها السيوطي في كتابه المشهور، على ما فيه من قلة التحقيق والتمحيص).
ثم تأتي كتب المغازي والسير الأصلية، وعلى رأسها سيرة ابن إسحق، التي هذبها ابن هشام، وشرحها السهيلي في الروض الأنف. وقد صارت هذه السيرة عمدة كل المتكلمين في هذا الفن، حتى طمست كثيرا من المصادر الأخرى، إلا عند أهل التحقيق والتدقيق، فإن لهم منهجا دقيقا واضحا في التعامل مع هذه المصادر جميعها.
ومن كتب المغازي المشهورة: مغازي الواقدي. وفي طبقات ابن سعد نقول كثيرة عن الواقدي في هذه المباحث.
والقسم الثاني: المصادر الفرعية
وهي الكتب التي تعتمد على المصادر الأصلية في مادتها العلمية، وأغلبها من تصنيف المتأخرين.
فمنها كتب جامعة في السيرة، منها كبير وصغير، مثل: الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر، وعيون الأثر لابن سيد الناس، وسبل الهدى والرشاد للصالحي، والمواهب اللدنية للقسطلاني، وزاد المعاد لابن القيم (وهو إلى معنى ”فقه السيرة” أقرب) وغيرها مما لا سبيل لإحصائه.
ومنها كتب التاريخ العام، والتراجم والطبقات: مثل تاريخ الأمم والملوك للطبري، والبداية والنهاية لابن كثير، وتاريخ الإسلام للذهبي، وسير أعلام النبلاء له. ففي هذه الكتب – خاصة عند ابن كثير والذهبي – فصول عظيمة النفع في فن السيرة النبوية، أكثر طلبة العلم عنها غافلون!
ومنها كتاب تاريخ الحرمين، مثل تاريخ مكة للأزرقي والفاكهي، وتاريخ المدينة لابن شبة، والعقد الثمين في تاريخ البلد الأمين لتقي الدين الفاسي، وخلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى للسمهودي.
ومنها كتب في التعريف بحقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، والصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية.
ومنها الكتب العصرية الجامعة مثل: نور اليقين للخضري، والرحيق المختوم للمباركفوري.
ثم الكتب العصرية المعتنية بما يسمى ”فقه السيرة”، مثل: كتاب السباعي والغزالي والبوطي. وأغلب ذلك مجموع في كتاب الصلابي: السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث).
والقسم الثالث: المتون وما يتعلق بها:
وهي كثيرة، لكنها غير مشتهرة عند طلبة العلم، لما أسلفنا من قلة عنايتهم بالجانب العلمي المحض في هذا الفن.
فمن أصغرها: (الأرجوزة الميئية) لابن أبي العز الحنفي، وهي منظومة في مائة بيت، سرد فيها صاحبها أحداث السيرة مرتبة. لكن فيها نقص كبير في أشياء هي من صميم هذا العلم.
وبعدها منظومة (قرة الأبصار في سيرة المشفع المختار) لعبد العزيز اللمطي المكناسي (توفي سنة 880)، وهي في أكثر من ثلاثمائة بيت من الرجز. وفي بعضها حشو لا يحتاج إليه، لو أزيل لنقص عدد أبياتها، وسهل حفظها دون إخلال بمقاصدها.
ومن أمثلة الحشو: أنه نظم قصة نذر عبد المطلب ذبح ابنه عبد الله، في نحو عشرة أبيات، وحقها أن تختصر في بيت أو بيتين!
ومن أمثلته أيضا: أنه يجعل عنوان كل باب بيتا منظوما، كقوله مثلا:
بيانُ مبعث النبي الهادي = صلى عليه خالق العباد
وفي هذه المنظومة مع ذلك، أبيات مختصرة نافعة، مثل نظمه للنسب الشريف إلى عدنان بقوله:
(معٍ شهٍ عقٍ كمٍ كلْغَفَمِنْ = كخْمٍ أمِنْ معٍ، إلى هنا زُكن)
فكل حرف منها هو أول حرف من أسماء آباء النبي صلى الله عليه وسلم:
محمد بن عبد الله بن شيبة (وهو عبد المطلب) بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وقوله إلى هنا زُكن: أي عُلم، لأن ما فوق عدنان من الأسماء غير معلوم بيقين.
وهذه الأسماء منظومةٌ في أربعة أبيات في نظم (عمود النسب) للبدوي بقوله:
النسب الذي عليه اتفقا = كل الورى إذ بالنبي أشرقا
أحمد عبد الله عبد المطلب = وهاشم عبد مناف المنتخبْ
ابن قصي بن كلاب مره = كعب لؤي غالب الغرّه
فهر بن مالك ونضر ذو السّكَهْ = كنانة خزيمة فمدركه
إلياسها مُضرها نزارُ = معد عدنان انتهى الخيارُ
ونظمتُها بقولي:
أبوه عبدُ الله، عبد المطلبْ = لِهاشمٍ، عبدِ منافٍ ينتسبْ
قصيُّهم، كلابُ، مرةٌ، خُذَا = كعبٌ، لؤيٌّ، غالبٌ، فهرٌ، كذا
ومالكٌ، نضرٌ، كنانةٌ وُجِدْ = خزيمةٌ مدركةٌ إلياس، زدْ
ومضرٌ، نزارُهم، مَعَدُّ = عدنانُ، ليس فوقَه يعدُّ
ومن شروح هذه الأرجوزة: بغية الأبرار لمحمد الحسن الخديم ونزهة الأفكار لعبد القادر المجلسي، وغيرهما.
ومن المنظومات في السيرة أيضا: (ذات الشفا في سيرة النبي المصطفى) لابن الجزري المقرئ المحدث المشهور، وهي في نحو خمسمائة بيت. وقد شرحها: محمد بن الحاج الكردي في (رفع الخفا).
ومنها أيضا: (نظم الغزوات) للبدوي الشنقيطي، وهو نظم نفيس، عظيم النفع جدا. ومن شروحه الحسنة: (إنارة الدجى) لحسن المشاط المالكي، و(روض النهاة) لحماد المجلسي، وفيه استدراكات على شرح المشاط.
وأطول منظومات السيرة: ألفية العراقي، وعليها شرح وسط لعبد الرؤوف المناوي مشهور متداول.
الطريقة المقترحة لدراسة السيرة النبوية
لا ريب أن أفضل مناهج دراسة العلوم الشرعية وأنجعها: ما جمع بين دراسة المتون بالطريقة التقليدية، ومذاكرة الكتب بالطريقة العصرية.
ولذلك فالمقترح أن يحفظ الطالب متنا جامعا، كألفية العراقي مثلا. ويمكنه أن يحفظ بدلا منها: متن قرة الأبصار مع تكميل ما ينقصه من نظم الغزوات للمجلسي. ولا بد من قراءة ما تيسر من شروح هذه المتون، فيكون بذلك قد أحاط بأكثر مباحث السيرة، التي يحتاج فيها إلى حفظ وضبط.
وإلى جانب هذا، فمن المتعين أن يتعامل الطالب مع بعض كتب السيرة الجامعة التي ألفها المتقدمون. فيقبح بطالب العلم ألا يكون من ضمن مقروءاته مثلا: سيرة ابن هشام وشرحها للسهيلي، أو عيون الأثر لابن سيد الناس، أو الشمائل للترمذي، أو زاد المعاد لابن القيم، أو ما أشبه هذه المؤلفات النافعة.
وعلى الطالب أن يستكثر من القراءة في فن السيرة، من كتب المتقدمين خصوصا، فإن التمكن من هذا الفن لا يأتي إلا بعد تمرس طويل بالكتب المعتبرة فيه.
ولا بأس أن يكمل قراءته ببعض كتب المعاصرين، ويكفيه – في نظري – كتاب (السيرة النبوية) للصلابي.
والله الموفق.