أدلة وجود الله(4)..الخلق يدل على الخالق - للشيخ اللغوي عصام البشير
أدلة وجود الله(4)..الخلق يدل على الخالق - للشيخ اللغوي عصام البشير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
سبق لي أن ذكرت أن معرفة الله تعالى معرفةٌ فطرية، وأن العلماء تلمّسوا – مع ذلك – أدلةً مختلفة للبرهنة على وجوده سبحانه وتعالى، سبق لي بيانُ أحدها وهو برهان أنسلم، مع الإشارة قبل ذلك إلى ما يشبه الدليل وهو رهان باسكال.
وقد آن الأوان لأتكلم عن واحدة من أعظم الطرق المتبعة للبرهنة على وجود الله تعالى، وهي: الاستدلال بالمخلوقات وما فيها من الإبداع والنظام، على وجود الخالق. ويتفرع هذا الدليل إلى مباحث كثيرة متكاملة، هي موضوع مقالاتي القادمة.
وغرضي من مقالي الأول هذا: أن أعرض هذا الدليل كما يقرره علماء العقائد الإسلامية المتقدمون، انطلاقا من نصوص الوحي، وبما يناسب معارفهم الكونية، وطبيعة الشبهات المثارة في زمانهم.
ثم سيكون لي وقفة – إن شاء الله – مع شرح الدليل نفسه بأسلوب عصري، يوافق الثقافة الحديثة، وما استجد فيها من علوم طبيعية، وشبهات فكرية، تحتاج إلى خطاب يلائمها.
وقفة من القرآن الكريم
لا يشك المسلم أن القرآن الكريم يحتوي على أصول الهداية، ويشتمل على ما يثبت العقائد الصحيحة في النفس البشرية، ويقتلع منها جذور الحيرة والشك، ويعيد بناء المفاهيم الصحيحة فيها على أسس ثابتة لا تحركها أعاصير الشبهات.
قال تعالى: { قل نزّله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين } (النحل:102).
وهذه الهداية الموجودة في القرآن، قد تكون على شكل إشارات عامة، تحتاج إلى إعمال الفكر والتدبر العميق لاستخلاص الدلائل منها، في صيغةٍ تكون في متناول جميع الناس.
وقد ورد في كتاب الله تعالى أصول البراهين على وجود الله وربوبيته، وإن كان أكثر الحوار القرآني مع المشركين في جانب إثبات الألوهية، واستحقاق الله تعالى للعبادة دون غيره من المعبودات الباطلة.
وتدور البراهين القرآنية على محورين:تدبر فعل الخلق، والتفكر في عظمة المخلوقات. وكلاهما يفضي إلى وجود الخالق سبحانه، واتصافه بصفات الكمال.
فمن المحور الأول قول الله سبحانه وتعالى: { أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون }(الطور:35).
فبيّن الله سبحانه أن القسمة لا تخرج عن أحد أمور ثلاثة، أنكر على المخالفين اثنين منها، فما بقي غيرُ الثالث. فإما أن يكونوا من غير خالق خلقهم، وإما أن يكونوا خلقوا أنفسهم، وإما أن يوجد خالق خلقهم، هو الله سبحانه وتعالى.
والأول والثاني، كلاهما مرفوض بضرورة العقل والحس والواقع، التي لا يمكن جحدها، إذ لا يعقل معدوم يَخلُق، ولا مخلوق بغير خالق. فما بقي إلا الثالث، وهو أن خالقهم على تلك الكيفية البديعة، والهيئة المتقنة العجيبة، هو الله الواحد سبحانه. وهذا هو المطلوب.
وهذا الاستدلال يدركه كل أحد من نفسه. واشتهر في كتب التراث قول الأعرابي معبّرا عنه كما استقر في الفطرة التي لم يلحقها تغيير: ” إن البعرة تدلّ على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على العليم الخبير ”.
وكلام هذا الأعرابي على ما فيه من ”سذاجة” في التمثيل توافق بيئته ومعارفه البدوية، يلخص – بتركيز شديد – ما سنبسطه بشيء من التفصيل والبيان، مع التمثيل الموافق لعصرنا، في ما يأتي من المباحث، في هذا المقال والمقالات التالية.
ومن المحور الثاني قول الله عز وجل: { وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون } (الذاريات:20-21).
فأرشد سبحانه إلى أن في خلق الإنسان منذ أن كان في رحم أمه، وتطوره من حال إلى حال، وما في بدنه من الإحكام البديع، والإتقان العجيب، دليلا على وجود الخالق الحكيم. وكذلك فإن ما في الكون من عجائب الإحكام والإتقان، والتنظيم الدقيق الذي يحير الألباب، أعظم برهان على أن له خالقا خلقه بعلم وحكمة.
وحث القرآن في مواضع كثيرة على النظر والتفكر في الكون، والسير في أرجائه للاعتبار، كما في قوله تعالى: { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، ثم الله ينشئ النشأة الآخرة، إن الله على كل شيء قدير } (العنكبوت:20)، وفي قوله عز وجل: { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } (فصلت:53). ومن تأمل آيات الله في الكون الفسيح، سطعت له أنوار اليقين، وذهبت عنه ظلمات الشك في الربوبية.
وتتداول كتب العقائد أن قوما من الملاحدة أتوا الإمام أبا حنيفة رحمه الله – أو غيره من الأئمة – ليبحثوا معه في تقرير توحيد الربوبية، فقال لهم:
”أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها فترسو بنفسها وتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يدبّرها أحد”
فقالوا:
”هذا محال، لا يمكن أبدا!”.
فقال لهم:
”إذا كان هذا محالا في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟”(1).
وقد ردّ القرآن الكريم على الذين انحرفت فطرهم، فأنكروا الخالق، وأن يكون لهم رب يفنيهم ويبعثهم، فحكى قولهم: { وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر }(الجاثية:24)، ثم أردف ذلك بقوله سبحانه: { وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون }(الجاثية:24). أي: ليس لهؤلاء دليل يرجعون إليه يمكن تسميته علمًا، لا من خبر ولا من عقل ولا من حس أو تجربة. وغاية أمرهم الشك والارتياب، واتباع الظنون الفاسدة.
وهذا توصيف دقيق لحال الملاحدة في كل زمان! فإن مبنى الإلحاد على محاولة هدم الأديان، ونسف ما تحمله من الحقائق والقيم، مع العجز الكامل عن إقامة بناء معرفي وأخلاقي ثابت في نفسه، وسالم من الحيرة والاضطراب.
وقد ذكر القرآن الكريم أيضا – في سورة الشعراء – محاورة موسى عليه السلام لفرعون الذي يدّعي الربوبية. وفي ضمن هذه المناظرة إشارات للرد على بعض من فسدت فطرته في باب الربوبية، أو كابر فيه اتباعا لهواه.
الدليل بصياغة علماء العقيدة
من المعلوم بضرورة العقل والمشاهدة وجودُ موجودات، لا يمكن الشك فيها.
وهذه الموجودات منها ما هو حادث بعد أن لم يكن، فإننا نرى حدوث البشر والشجر والمطر ونحو ذلك.
وهذه المحدَثات فيها احتمالان: أن تكون قد وُجدت من عدم، أو أن يكون أوجدها مُحدِثٌ لها.
فأما الاحتمال الأول فغيرُ ممكن، لأن العدم ليس بشيء حتى يوجد غيره.
وأما الاحتمال الثاني، ففيه صورتان: أن تكون قد أوجدت نفسها، أو أن يكون أوجدها غيرُها.
والصورة الأولى ممتنعة، فكل إنسان يعلم – بالاضطرار الذي لا يمكن دفعه – أنه لا يستطيع خلق نفسه، فهو قبل خلقها لم يكن شيئا!
والصورة الثانية، وهي أنها وجدت بمُوجد آخر، تشمل وجهين:
أن يكون هذا الـمُوجد حادثا مثلها، فيحتاج حينئذ إلى مُحدِث أيضا، وهذا المحدِث إلى محدِث آخر، فيتسلسل إلى ما لا نهاية. وهذا تسلسل ممتنع بضرورة العقل. وإذا كان المحدَث الواحد محتاجا إلى محدِث، فإذا كثرت الحوادث وتسلسلت كان احتياجها إلى المحدِث أولى!
والوجه الثاني: أن يكون مُوجدُها غيرَ حادث، بل يكون واجب الوجود بنفسه، وهو الله تعالى.
وهذا هو المراد إثباته بهذا الدليل.
وهذا الدليل يمكن أن تسبغ عليه حلّة عصرية جديدة. وهو ما سأتطرق له في المقال المقبل إن شاء الله.
هوامش المقال
1- شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي: ص 77.
د. البشير عصام المراكشي