كل شيئ عن الشهيد البطل عبد الرحمن الغافقي
كل شيئ عن الشهيد البطل عبد الرحمن الغافقي
كان عبد الرحمن الغافقي – رحمه الله – بطلاً بعيد الهمة حازم الإرادة ، وكان جديراً بتخليد اسمه وترداد ذكره لولا أن حافظة التاريخ لا تعي غير أسماء محظوظة ، كُتب لأصحابها النصر في النهاية ، ولقد أبدي هذا البطل العظيم من ضروب الفدائية وروائع التضحية ما يدهش ويعجب إلا أنه كان في المعركة الأخيرة مع بسالته الخارقة قائدًا بغير جنود . وقد ينشأ نشأة مباركة ، فصحب كرام الصحابة ، وتلقي الفقه والحديث عن عبد الله بن عمر وغيره ، وفاضت نفسه حماسة للإسلام وشغفاً بانتصاره ، فنزح فيمن نزح إلي الأندلس من البسلاء الكماة ، مجاهدًا في سبيل دينه . ثم تألق نجمه فيما اشترك فيه من الغزوات والحروب ، فعرف بالشجاعة والمروءة ، واكتسب إجلال معارفه وأصحابه ، وتقدم الصفوف قائداً ممتازاً يرسم الخطط ويدير المعارك .
وكانت الأندلس في عهدها الأول مرتعاً للفتن والثورات ، ومسرحاً للخلاف القبلي والعنصري ، وقد وليها بعد موسي ابن نصير أناس لم يثبتوا للحوادث ، حتى رأسها " السمح بن مالك الخولاني " فأعاد إليها النظام والاستقرار ، وأبرز مهارته الإدارية ، وكان بطلاً مقدماً ، فرأي أن يستأنف الغزو ، ويرفع راية الجهاد ، وتقدم بجيشه الباسل ، فلقي كثيراً من النجاح والتوفيق ، واستعاد " أربونة " و " قرقشونة " ومعظم قواعد " سبتمانيا " وحصونها ، وأقام بها حكومة إسلامية ثم اتجه إلي " أكوتين " فوجد مقاومة عنيفة ، ولكنه اكتسح العدو اكتساحاً رائعاً ، وتقدم إلي " نولوشة " فوقف أمام جيش كثيف يفوقه عدداً وعُدَداً فلم يعبأ به واخترق صفوفه ، وقذف بجنوده في حومة حمراء بالدماء ، وشاء الله أن يسقط شهيداً في مأزقه الكريه ، فانسحب المسلمون ثانية بعد أن فقدوا قائدهم البطل ، وخسروا عدداً كبيراً من الجنود .
وكان عبد الرحمن الغافقي أحد جنوده في المعركة فأجمع الجيش علي اختياره للقيادة ، ورأي من الحنكة أن يرتد إلي الجنوب ولكن حزنه الأليم علي مصرع قائده ، واستشهاد زملائه جعله يفكر جدياً في الانتقام لمصارع الأبطال ، واستئناف الغزو والهجوم . ولم يرض الوالي الإفريقي عن اختيار الغافقي للقيادة ، وكانت الأندلس تابعة له في تعيين الولاة ، فبعث بغيره مكانه إلا أن القلق والاضطراب الذي دام خمسة أعوام متتابعة قد أجبره علي تعيين عبد الرحمن مرة ثانية فعاد الأسد إلي عرينه يتقدم الصفوف ويجهز الكتائب للنضال . بدأ عبد الرحمن بإصلاح داخلي يقوم علي العدالة والمساواة ، فعدل نظام الضرائب ، وعزل من العمال من حامت حوله الريب والظنون ، وأظهر تسامح الإسلام في معاملة النصارى واليهود ، فلهجت الألسنة بالثناء عليه ، وفرح الأندلسيون بولايته فرحاً زائدًا .. ولم يكن ليحابي أحدًا في سبيل الحق والعدالة ، بل إن أخلاق الإسلام التي سرت في عروقه واختلطت بدمائه ألهمته سبيل الرشاد وجعلته يغزو غزوة عاجلة غنم فيها أسلاباً وافرة ، وكان فيما أصابه عمود صغير من الذهب المرصع بالدر والياقوت ، فأمر به فكسر ، ثم أخرج منه الخمس كما أمر الله ، وقسم الباقي علي من معه من الجنود ، فغضب وإلي إفريقية غضباً شديدًا ، إذ كان يود أن يتقدم به إليه مجاملة ، فكتب يتوعده في لهجة قاسية ، فرد عبد الرحمن يقول : إن السموات والأرض لو كانتا رتقاً لجعل الله للمتقين مخرجاً منها !!. وذلك يدل دلالة ساطعة علي إيمان القائد وورعه وتخلقه بالخلال الإسلامية الواضحة الشفافة ، فهو لا يعبأ بكبير في الحق ، ولا يدخر لنفسه شيئاً دون جنوده ، وبهذه الشمائل العالية نال ثواب الله .. واحتل شغاف القلوب .
وكان هذا البطل الباسل يعزم عزماً أكيداً علي تحقيق أمنية موسي بن نصير في الفتح الإسلامي ، فهو يريد أن يوغل في أرض الإفرنج حاملاً مدينة الإسلام وحضارته إلي شعوب غارقة في الظلام والضلال ، ثم يعطف علي الشرق فينفذ من القسطنطينية إلي دمشق ، وبذلك يعم الإسلام القارة الأوروبية ، وينقذ شعوبها من الظلمات ويخرجهم إلي النور ، هذا إلي أن مصرع " السمح بن مالك " ورفقائه كان يذكي في صدره نار الحمية ، فهو يود – وقد شاهد المأساة – أن يؤدب هؤلاء الذين ظنوا الظنون الوخيمة بقوة الإسلام ، فأشاعوا الشائعات المسمومة حول شجاعة أبطاله ، ومقدرة قواده ، ومن ثم أخذ يدرب الجيوش ويحشد الذخائر ، ويضع كل جندي في موضعه اللائق بكفايته ، ولم تنته أعباؤه الإدارية عند الإعداد الجيش ، وإذكاء الحمية في نفوس تتطلع إلي النصر أو الاستشهاد ، كما انتخب فرقاً مختلفة من البربر وعهد بقيادتها إلي أبطال من العرب ، فأحسنوا قوة عظيمة ، وقد خلع الغافقي بعمله هذا علي البربر مكرمة خالدة .. فشعروا أنهم لا يقلون عن العرب كفاية وموهبة وإن كانت روح الإسلام لم تهيمن علي مشاعرهم هيمنة تامة عاجلة ، فقضوا – بعد – أمدًا كبيراً في التوجيه والاستعداد .
وقد رأي عبد الرحمن أن يطهر الجبهة الداخلية قبل أن يشتبك مع أعداء الإسلام في موقف حاسم ، فبعث بكتيبة من جنوده إلي عثمان بن أبي نسعة ، وكان من قبل واليًا بربريًا علي الأندلس ، فعزله عنها ، وعين حاكمًا لولايات البرينية ، فاضطرم حسدًا وحقداً علي الغافقي وتعاهد مع أعداء الإسلام علي مقاتلته ، بل إنه تزوج ابنة دوق (أوكتني) ليضمن مساعدته في قتال عبد الرحمن ، وكان هذا الدوق بين نارين : فهو يخشي من الجنوب الجيوش الإسلامية التي أصبحت علي مقربة منه تهدد مقاطعته ، وتدمر حصونه ، كما يخشي جيوش الإفرنج من الشمال ، وقد بعث (شارل مارتل) بطلائعها الزاحفة لمناوشته وإسقاط معاقله ، فاضطر اضطراراً مجازفاً إلي معاهدة ابن أبي نسعة ومصاهرته أيضًا ، وطار الخير إلي عبد الرحمن ، فأرسل إلي الوالي الخائن جيشًا بقيادة أحد المهرة من جنوده ، فحاصره جزاء مروقه وخيانته .
عبأ الغافقي جنوده ، واستأنف الغزو طبقاً لمشروعه الضخم الذي رصد حياته لتنفيذه ، فاكتسح المدن الواقعة علي نهر الرون ثم هجم علي ولاية (أكوتين) وحالفه النصر ، فمزق جيوشها وطارد فلولها ، وسقطت في يده ، وتابع زحفه منتصراً في جميع خطواته حتى افتتح نصف فرنسا الجنوبي من الشرق إلي الغرب في بضعة أشهر ، وأصبحت العاصمة الفرنسية مهددة بالسقوط ، وقد التهب جنوده حماسة وحمية ، وزادهم إقدامًا ما يتوجون به في كل معركة من النصر الباهر ، والفتح العظيم . انزعجت أوروبا انزعاجاً صارخاً لتقدم الجيوش الإسلامية ، وفزع زعماء المسيحية ، فأرسلوا صيحاتهم الصليبية في آفاق أوروبا ، وبذلوا أقصي ما يقدرون عليه في إشعال الكراهية للإسلام ، وتأريث العداوة لرجاله ، وكان ملك الفرنجة ضعيفاً عاجزاً يتولي حاجب قصره ( شارل مارتل) قيادة أموره ،فتجمع حوله الصليبيون وقدموه قائدًا للكفاح النصراني ، وكان ذا أطماع واسعة إليها من وراء قيادته فحشد جيشًا ضخماً يؤلف العصابات الجرمانية والعشائر المتوحشة ، ويجمع طوفانًا مرعبًا من الآدميين المتوحشين ، وقد خرجوا حفاة عراة ، يتشحون بجلود الذئاب والنمور ، ويرسلون ضفائرهم الممتدة فوق ظهورهم ، فيرسمون للوحشية البدائية صوراً مزعجة حمراء ، وضاقت بجموعهم الكثيفة سهول فرنسا فتدافعوا علي ضفاف اللوار متراصين متزاحمين .
لم يعتمد " شارل مارتل " علي القوة وحدها ، بل أعمل الحيلة والمكيدة فانتظر بجنوده وقتاً غير يسير ، وقد علم أن المسلمين مثقلون بالغنائم والأسلاب ، فلابد من انتظارهم وقتًا ما ليشغلوا بنفائسها الثمينة عن القتال ، وليتجهوا إلي الحرص عليها من جهة ، كما يتسع أمامه الوقت من جهة أخري لتنظيم صفوفه ، ووضع الخطط الدقيقة ، وتقدير الاحتمالات المتوقعة في الهجوم والدفاع ، ولم يكن المسلمون يقدرون في نفوسهم أنهم سيقفون أمام هذا الطوفان الحاشد من الموج المتوحش إلا أن وثوقهم من النصر خلع من قلوب القادة كل خوف ، فأخذ عبد الرحمن – وكان من فرسان المنابر والهيجاء معًا – يخطب في جنوده ، ويحثهم علي الثبات والصبر ، وكان يتقد حماسة وحمية فأفرغ في خطبه كثيراً مما تزخر به نفسه المتوثبة ثم تقدم بجنوده يحدوه الأمل المشرق ، ويدفعه اليقين الراسخ بمسالمة الأقدار ، مرتقبًا ما تتمخض عنه الأحداث .
وفي رحاب شمبانيا الشاسعة الأطراف – بين بواتيه وتور – التقي جيشان يختلفان عددًا ولغة ودينًا ، علي مقربة من نهر اللوار هجمت فرسان المسلمين علي صفوف الفرنجة ، وتكدست جثث القتلى من الجانبين طيلة النهار حتى فصل بينهما الظلام . كان الجنود المسلمين أُسداً مغاوير ، فقد اخترقوا الصفوف وراء قائدهم الباسل ، ورأوا من جلاد الأعداء ونضالهم المستميت ما لم يعهدوه من قبل ، فكلما اخترقوا صفاً تلاحقت أمامهم وحولهم الصفوف المدججة ذات الصياح المرعب المتوحش ، وقضوا نهارًا عابسًا كريهاً كثرت فيه ضحايا الفريقين ، واختال ملك الموت ليسقي الكماة الدارعين من معين ثجاج لا ينضب ، وما غربت الشمس حتى خارت القوي ، وتحطمت الأعصاب ووقف الليل الدامس حاجزًا كثيفاً يمنع تشاجر الرماح إلي حين . وقد برقت في حندس الليل لشارل مارتل فكرة داهية ، طار لها فرحًا واستبشاراً ، فالمسلمون مثقلون بغنائمهم الثمينة ، وأسلابهم الذهبية النادرة ، وكثير منهم من البرابرة الذين يحرصون علي نفائسهم الغالية ، فما عليه حين يتلاحم الجيشان إلا أن يبعث بمن يصبح باكياً علي الأسلاب المنهوبة ، والنفائس المباحة ليرتد المسلمون مدافعين عنها ، فيتمكن عدوهم من رقاب عزيزة ، وأنوف ذات شمم !! فكرة ماكرة قاصمة جالت بذهن القائد الفرنجي فبادر بتنفيذها حين التقي الجمعان .. وطار الصراخ في كل مكان وارتفع البكاء علي النفائس ، فصح ما توقعه شارل ، وترك الكثيرون ميدان القتال واندفعوا إلي الخيام مذعورين ، وهال الموقف الرهيب عبد الرحمن وأفزعه فطفق يعدو بجواده ذات اليمن وذات الشمال ، داعيًا إلي الثبات والإقدام في معشر زين لهم حب المال ، وجُنُّوا هياماً بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، وحين خابت صرخاته اليائسة ترك الطامعين من المرتدين ، واندفع مع خيرة جنوده ليقف بهم أمام الطوفان المتوحش الرهيب .
واستبسلت كتيبة القائد استبسالا ينحني له التاريخ إجلالاً وإكباراً فأطاحت بصفوف هائلة من الجحافل المتراصة المترامية ، ولكن الطوفان اللجب قد زحف بموجه المربد علي الفدائيين المناضلين فسقط البطل الغافقي صريعًا شهيداً ، وساد الذعر جيوش الإسلام إذ وقع استشهاد عبد الرحمن موقعاً أليمًا ، ودعا إلي الحيرة والذهول والارتباك ، في حين أمعن العدو في المسلمين تقتيلاً وإهلاكاً ، فطارت نفوس كثيرة ، وسقطت جثث لا تخضع لحصر ، وتمادي " شارل مارتل " مع جيشه واستئصالاً ، فلم يعبأ بجريح يئن أو شهيد يحتضر حتى أتي الظلام الأسود فطوي الستار علي يوم أشأم ، لم يسمع المسلمون بمثله في الأندلس قبل ذلك ، وعرفت هذه المعركة الحمراء في التاريخ الإسلامي بمعركة " بلاط الشهداء " نظراً لكثرة من سقط في ميدانها الرهيب من شهداء الجهاد الإسلامي .
وقد اجتمعت تحت ستار الليل فلول الجيش المنهزم ، وقرروا الانسحاب النهائي متسربلين بالظلام ، بعد أن عمت النكبة ، وتفاقم الخطب ، وتقهقر الجيش سريعًا في هدوء صامت ، تاركًا وراءه غنائمه وذخائره ، وعدداً من الجرحى لا سبيل إلي إنقاذه في ساعات معدودات ، وحين أشرقت الشمس نظر " شارل مارتل " فلم يجد اللواء الإسلامي يتقدم .. فظنها مكيدة بيتت بليل ، وتلبث قليلاً لا يدري ما يصنع ، ثم طال به الوقت فاندفع مع جيشه بحذر إلي المعسكر الإسلامي ، فلم يجد غير الجرحى المحتضرين وذخيرة ضخمة من الأسلاب التي سببت وقوع الكارثة .. فأجهز علي البقية الباقية من الأرماق المتخاذلة ونهب ما وقعت عليه يده من عتاد ، ومال ، ومازالت شكيمة الجيش الإسلامي – برغم انكساره الحزين – ترهبه وتخيفه ، فخاف أن يتعقب الفلول المتقهقرة ، ورجع إلي قواعده مكتفياً بما أحرزه في هذه المعركة من نصر ساحق .. وجعل يدق الطبول في كل مكان مردداً أهازيج النصر وأناشيد النجاح .
أجل لقد فرحت النصرانية بهذه النتيجة فرحاً عصف بالحلوم ، ومازال أكثر كتاب الغرب إلي اليوم يتكلمون عن " معركة بلاط الشهداء ، مزغردين مستبشرين ، وقد ضفروا أكاليل الثناء ، ونظموا قصائد المدبح لشارل مارتل ، وعدوه بطل النصرانية الذي أوقف امتداد الإسلام ، وثبت أركان المسيحية بعد أن زعزعتها العواصف ، وتعرضت لأحلك الأزمات ، وبالغ أكثر مؤرخيهم في وصف هزيمة العرب ، فذكروا رقماً خياليًا لضحايا الإسلام لا يستند إلي برهان ، بل جعلوا معركة البلاط معركة استئصال وفناء ، وهذا وهم " كاذب " وتضليل بعيد ، فلو لم تكن للمسلمين قوة مرهوبة بعد الهزيمة لتتبع شارل مارتل فلولهم المرتدة بجيشه المنتصر ذي الروح العالية والزهو العريض ، ولكنه جبن عن ذلك مقدراً ما يعترضه من الصعاب ، وما كان للقائد الطموح أن يحجم عن كسب جديد يزيد به مجده التاريخي وصيته البعيد ، ويكفي دليلاً علي تماسك المسلمين بعد الهزيمة أنهم وقفوا في وجه القائد المنتصر حينما حاصر " أربونة " فامتنعت عليه امتناعاً أيأسه وحطم خططه ، بعد أن كان يحلم بإبادة المسلمين واستئصالهم من الأندلس جميعها ، ومن ثم فر راجعًا إلي قواعده ، مكتفياً بسابق انتصاره وأحاديث الفوز والغلبة تفعمه بأريج عاطر ، وترسل في سمعه أعذب النغمات .
لقد استشهد عبد الرحمن الغافقي بعد أن أبلي أحسن البلاء ، وبذل أقصي ما يبذله قائد باسل في الذود عن حياضه ولكن مأساة " أُحد " تكررت في سهول فرنسا مرة ثانية ، إذ تكالب المسلمون علي الغنائم ، وتركوا الجهاد فآسفوا البطل الغافقي في الغرب كما سبق أن آسفوا الرسول الهاشمي يوم أُحد في الشرق ، وكأن التاريخ يعيد نفسه من جديد ليبرز للمسلمين شتى العبر وأبلغ العظات ، ولكن أين من يعقل ويتدبر ؟! علي أن هذا التاريخ نفسه لم يطفئ بريقاً من مجد البطل الشهيد ، فقد أجمع المؤرخون علي تقديره وإكباره ، وسجلوا فدائيته العجيبة بسطور من ضياء .. فقد قاتل قتال المستميت ، وتقدم إلي الموت وهو لا يشك لحظة في استشهاده .
وماذا يصنع بمن سحرهم بريق المال فدارت عليهم وعليه الدائرة دون أن تجديه تضحية واستبسال ؟ قد يقال : إن البطل الشهيد لم يملك السيطرة علي جنده حين تحرج به الموقف ، وهرع الطامعون إلي الأسلاب ، ولكن هذه انتفاضة فجائية تقع أمثالها بغتة دون أن تدخل في حساب القادة ، ولا يمكن أن تكون بغتة دون أن تدخل في حساب القادة ، ولا يمكن أن تكون محلاً للمؤاخذة إذ أغفلها زعيم تعود النصر ، وقائد ألف الطاعة والامتثال ، علي أن الغافقي بالذات قد فطن إلي أخطر الأسلاب وحذر منها دون أن يشدد في أمرها رغبة في اجتماع الكلمة واتحاد الأهواء ، كما ذكر ذلك الأستاذ محمد عبد الله عنان في كتابه " مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام " وهناك نقد آخر لا يخرج عما ذكره الأستاذ محمد لبيب البتانوني في كتابه " رحلة إلي الأندلس " حيث قال ص60 :
" كان يجب علي الغافقي بعد دخوله بلاد فرنسا أن يجعل حدًّا لسيل هجومه قبل أن يقف الضعف الطبيعي لهذا السيل عند الحد انقلب به الفتح خذلاناً والنصر هزيمة " .
وهذا نقد يخطه الكاتب غافلاً عن الحمية الدينية التي كانت تهيمن علي مشاعر المسلمين ، وتجعل انتشار الإسلام فريضة تستحب فيها الشهادة إن لم تجب ، وقد ألهيت الانتصارات المتوالية نفوس الغزاة فوثقوا من النصر وثوقاً طرد من أذهانهم كل شبح للهزيمة ، علي أنهم لم يؤتوا من ناحية القوة فيكون الضعف الطبيعي سبباً للنكبة كما ذكر الأستاذ ، بل إن كارثة الغنائم وحدها هي التي أبعدت النصر القريب ، وأخلفت ظنون القائد في شجاعة جنوده ، وقد دعا إلي التخلي عنها دعوات صارخة حين وجد التناحر عليها يفتح باب الكارثة ، وإذ ضاق به الأمر جاد بنفسه رخيصة هينة في جنب الله فارتفع إلي مقام البررة من الشهداء ..
وقد كـان فـوتُ الموت سهـلاً فـردُهُ
إليـه الحـفـاظ المرُّ والخُلُـقُ الوَعْـرُ
م ن ق و ل