الحركة الإسلامية المعاصرة: أمراض الواقع، وآفاق العلاج - مقال للشيخ اللغوي عصام البشير
الحركة الإسلامية المعاصرة: أمراض الواقع، وآفاق العلاج - مقال للشيخ اللغوي عصام البشير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فإن السعي الدائب في طريق طويلة، محفوفة بالأشواك، محاطة بالعراقيل والمثبطات، لا يمكن أن يخلو من الأخطاء والعثرات، فإن هذا مقتضى النقص البشري، وطبيعة عمل الإنسان، مذ كان في الكون إنسان. والذي يسلم من الأخطاء مطلقا، هو الذي لا يعمل مطلقا!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإن الحركة الإسلامية – على ما جمعته من أسباب النجاح، وعوامل تحقيق الأهداف – لا تخرج عن هذه القاعدة البشرية، والسنة المطردة. ولا يمكن أن يشفع لها – في مخالفة هذا الأصل – المقاصدُ الحسنة للمنتسبين إليها، ولا الجهود الضخمة التي يبذلونها صباح مساء.
فالخطأ لازم، وتصحيحه متعين.
لكن أول خطوة في طريق التصحيح: الاعترافُ بوجوده، إذ لا تصحيح لغلط غير موجود!
ويتلو ذلك – ولا بد – حسن تشخيص المرض، وهذا يقتضي قبول أقوال المنتقدين الناصحين، والتعاون معهم للوصول إلى العلاج الملائم، والحلول الناجعة.
· فذلكة تاريخية:
لقد مرت الحركة الإسلامية منذ نشأتها، بمراحل تاريخية عديدة ومتمع السلامةنة. ولا شك أنه لا يمكن فهم واقع هذه الحركة إلا بسؤال التاريخ، ورصد هذا التطور الذي مرت منه.
لقد كان حدث سقوط الخلافة كارثة مدوية، على عموم المسلمين. فقد استيقظ أهل الإسلام ذات يوم، وليس للأمة خليفة واحد، يجتمع المسلمون حوله، ولو على سبيل الشعار والرمز. ووجد الناس أنفسهم يذوقون مرارة الوطنية الضيقة، في حدود الدول القطرية التي أنشأها الاستعمار لتكون بديلا عن دولة الخلافة.
وجاء هذا السقوط بعد عقود من التنحية التدريجية للشريعة الإسلامية، عن مكانها الطبيعي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقضائية، ثم السياسية. وهكذا وجد المسلمون أنفسهم مضطرين للتعامل مع دينهم كما يتعامل مستعمروهم مع دياناتهم: حصر الدين في مراكز العبادة، وإبعاده عن سائر مجالت الحياة.
إلا أن عقلاء المسلمين الذين يجدون نصوص الوحيين أمامهم طافحة بالتشريعات العامة في المجتمع والدولة، لم يمكنهم أن يستسيغوا هذا الفصام، كما استساغه أتباع الكنيسة.
ومن هنا كان قيام الحركات الإسلامية – أو قل: جماعات الإسلام السياسي، كما يسميهم بعض الإعلاميين. فظهرت في مصر جماعة (الإخوان المسلمين) بقيادة الأستاذ حسن البنا رحمه الله، وفي الهند (الجماعة الإسلامية) بزعامة أبي الأعلى المودودي رحمه الله، ثم تناسلت هذه الجماعات في سائر العالم الإسلامي.
إن ظروف النشأة وإرهاصاتها، تؤكد دون أدنى تردد على أن الغاية العليا التي تجمع حولها هؤلاء الرواد الأولون، وبذلوا في سبيلها الغالي والنفيس إنما هي: تحكيم الشريعة، وإرجاع حكم الخلافة.
فما الذي بقي من هذه الغاية بعد ذلك؟
· التطور الفكري:
وجدت الحركات الإسلامية الوليدة أمامها احتفاء بالغا من الجماهير المتعطشة لاسترداد أمجاد الأمة ووحدتها، ووجدت بالمقابل أيضا عداوة شديدة من النخب السياسية التي انتفعت عظيم الانتفاع بغياب الخلافة، وزوال حكم الشريعة.
فبقدر ما كان الانتشار الجماهيري الواسع لفكر هذه الجماعات الإسلامية، بقدر ما وقع عليها من المنع السياسي، والتشويه الإعلامي، والقمع المنهجي في أقبية السجون.
ومر على هذه الحركات سنوات كئيبة من الصدام والعنف، والابتلاءات الخانقة في الأنفس والأموال.
إلا أن الابتلاء البدني – على خطورته وثقله على النفوس – لا يعد شيئا أمام الابتلاءات الفكرية، والمحن التنظيرية.
لقد وجد أعضاء هذه الجماعات أنفسهم – وهم بين تنكيل وتشريد وتعذيب – أمام امتحان فكري قاس، وهو: التنظير السليم لهذا الصدام، دون الوقوع في مخلبي النظريات الانتقامية الغالية، والتسويغات الذليلة التي يمليها الواقع العسير!
وكان فقه غياهب السجون، الذي سار في اتجاهين متقابلين:
– الاتجاه الأول: تجاوز الضوابط الشرعية في الحكم على المخالفين، والغلو في تحديد وسائل التغيير.
– والاتجاه الثاني: التنازل عن الغايات الجوهرية التي قامت الجماعات الإسلامية من أجل تحقيقها، ووضع أهداف مرحلية جديدة، سرعان ما تحولت – تحت ضغط الواقع – إلى غايات استراتيجية كبرى.
وإذا كان الاتجاه الأول قد أخذ نصيبه – بل أكثر – من النقد والتوجيه، بل من البراءة والتقريع، خاصة في وسائل الإعلام؛ فإن الثاني لا يزال – لأسباب كثيرة – بعيدا عن النقد البناء، مع أنه هو الاتجاه السائد، الذي يقود فكر الإسلام السياسي المتغلغل في ضمير الأمة.
· رصد بعض الاختلالات المنهجية في الخطاب الإسلامي المعاصر:
إن الانقسامات التي وقعت في الجماعات الإسلامية، والتطور الفكري الحاصل في أغلبها من فكرة دفع الصائل المعتدي إلى فكرة التعايش ومحاولة انتزاع الاعتراف، بأي ثمن ممكن، أديا إلى اختلالات خطيرة في الخطاب السياسي لهذه الجماعات، وانحراف جوهري عن المبادئ الأصلية التي قامت عليها، والغايات التي أنشئت من أجلها.
ويمكن رصد هذه الاختلالات والانحرافات في محاور ثلاثة: في طبيعة الخطاب، وفي الأهداف المسطرة، وفي الوسائل المتبعة.
– في طبيعة الخطاب:
إن الخطاب هو وعاء الفكر، ولا يمكن تصور فكر نقي من الشوائب في خطاب مخلوط وغير سليم.
والخطاب الإسلامي المعاصر – وإن عرف تنظيرا كثيرا – لم يسلم عند التطبيق من مزلقين خطيرين، يمكن اختزالهما في الشدة مع القريب واللين مع البعيد:
فالمزلق الأول يتلخص في الرغبة المبالغ فيها في إظهار المرونة والاعتدال، وحصد شهادات حسن السيرة من جموع المخالفين، داخل الأمة وخارجها. وقد أثمرت هذه الرغبة خطابا دعويا مائعا، يتنازل عن بدهيات مبدئية لأجل طمأنة الخصوم! وإذا كان المؤسسون والرواد يفهمون أن هذا الخطاب لا يعدو أن يكون داخلا في إطار المرونة الدعوية، ولا يستلزم تأسيس المبادئ والتصورات الاستراتيجية، فإن المشكلة الكبرى أن أجيالا متعاقبة تنشأ على هذا الخطاب، فتأخذه على أنه من المسلمات الفكرية، وتجعله غاية جهدها، ونهاية سعيها!
وأما الثاني فناشئ من هذه الطمأنة التي أشرت إليها في المزلق الأول، لأن طمأنة الخصم على طريق ”الاعتدال” لا تتم إلا بإظهار البراءة من كل مخالف لهذا التوجه ”المعتدل”! فوُجد لذلك توجه كبير داخل الحركة الإسلامية يشدد على المخالف في الاجتهاد السياسي، ويرفع عقيرته بالنكير عليه، وقد يقع في تبديعه أو تفسيقه، والبراءة من أفعاله، بل من شخصه أيضا! وهذا فوق كونه سوء فهم لعقيدة الولاء والبراء، فإنه أيضا ضعف في فهم نفسية العدو، وجهل بحقيقةِ أهدافه، وسوءُ تقدير لطبيعة التماسك الفكري المنشود في كل حركة سياسية فاعلة.
– في الأهداف:
ذكرتُ آنفا في العرض التاريخي أن الغاية التي من أجلها نشأت الحركات الإسلامية هي: تحكيم الشريعة وإحياء الخلافة.
ولكن أجواء الصدام والقمع التي عاشتها هذه الحركات جعلتها تتخلى في كثير من الأحيان عن هذه الغايات – أو على الأقل: عن إعلانها – وتتجه نحو مجموعة من الأهداف الصغيرة، التي يمكن أن يوافقها في الدعوة إليها أحزاب وجماعات أخرى، من خارج التيار الإسلامي.
فمن تلك الأهداف:
– الحريات السياسية وحقوق الإنسان – بمعناها الغربي – وهي التي عانت الحركة الإسلامية كثيرا بسبب تغييبها في أغلب الدول الإسلامية. فصار النضال من أجل تحصيلها غاية كبرى!
– إقامة أسس الدولة المدنية، سواء تلك التي تقابل الدولة العسكرية، أو التي تقابل الثيوقراطية. فالحركات الإسلامية صارت ترفع هذا الشعار، وتلعب في أحيان كثيرة على الغبش الحاصل في تحرير هذه الاصطلاحات عند عامة الناس.
– تحقيق التنمية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، ومحاربة مظاهر الفساد المستشري في كل مفاصل الدول الإسلامية الحديثة. وسبب الاعتناء بهذا الهدف واضح، فإن حكام البلاد الإسلامية خلال القرن الماضي، لم يكتفوا بتضييق الحريات، ونسف الحقوق الفردية والجماعية، بل حطموا أيضا كل آمال الرقي الحضاري والازدهار الاقتصادي والاجتماعي.
إن هذه الأهداف المرحلية – وغيرها كثير – قد يمكن إدراجها ضمن الغاية الإسلامية الكبرى، كالمقدمات الممهدات لها، وذلك بعد تأويلها تأويلا إسلاميا صرفا ينقيها من شوائب الفلسفات الغربية الإلحادية، ويمحضها في خدمة المبادئ الدينية، والأصول الشرعية.
فليس العيب في أن توضع أهداف جزئية، و”تكتيكات” مرحلية، ولكن العيب في أن تتحول هذه الأهداف إلى غايات كلية استراتيجية، تنسى في خضم النضال لأجلها كل المبادئ والقيم!
– في الوسائل:
إن الانحراف في الأهداف يستلزم خللا في الوسائل، ولا بد.
لقد وقع للحركة الإسلامية أغلاط في وسائل التغيير، بالتركيز على بعض الجوانب دون بعضها الآخر، وبتضخيم بعض الوسائل على حساب وسائل كثيرة، وقع في اعتمادها ضمور خطير، على الرغم من جمعها شرطي الموافقة للشرع، والنجاعة في الواقع.
فمن ذلك: ما وقع من التسارع إلى المشاركة الانتخابية، بأي ثمن، وتحت أية راية، وفي كل حال. وليس المراد هنا تحرير مسألة المشاركة من الناحية الشرعية، ولا بحثها من جهة الفائدة في تغييرالواقع، فإن ذلك يطول جدا، على أنه قد بُحث مرارا من قبل. لكن مقصودي: التنبيه على أن هذه المشاركة – على فرض جوازها في الشرع ونفعها في الواقع – لا ينبغي أن تمارس دون قيود ولا ضوابط، ولا يصح أن يطلق لها العنان، حتى تؤول إلى ما يشبه العمل السياسي كما يفهمه ويمارسه الغربيون: حزبية ضيقة، ونفاق سياسي، ودوس للقيم، وتنازل عن المبادئ!
كما أن من الخطل السياسي والفكري: أن تغطي المشاركة الانتخابية على كل الوسائل المشروعة الأخرى، بما في ذلك الوسائل السياسية المتفق على جوازها! وبعبارة أخرى: إن المشاركة السياسية، والتفاعل مع الأحداث العظمى في الأمة، لا تستلزم بالضرورة المشاركةَ الانتخابية البرلمانية. والتركيز الشديد على التغيير عن طريق صناديق الاقتراع، جعل التشكيك المجرد في نجاعته أو شرعيته، يقابل بإنكار قاس غليظ من قادة بعض الحركات الإسلامية.
ومن الأخطاء في باب الوسائل أيضا: التركيز على مجال التوعية السياسية، على حساب التأطير العلمي.
وهذا خطأ قديم، تنبه له بعض قادة الحركات الإسلامية، فقد أنشأ الأستاذ حسن البنا رحمه الله تعالى سنة 1947، مجلة علمية شهرية، تخلف مجلة المنار التي كان يقوم عليها الشيخ رشيد رضا رحمه الله تعالى، ووضع لهذه المجلة أهدافا تعليمية وتثقيفية لتوسيع ثقافة أفراد الجماعة.
وعلق الشيخ القرضاوي على ذلك بقوله: (وأعتقد أن الأستاذ كان صائب الفكرة في ذلك، فقد طغى الجانب التكويني العملي والسلوكي لدى الإخوان على الجانب العلمي والثقافي. أقصد الثقافة العميقة والمنهجية.
ومن قرأ العدد الخاص الذي أصدرته جريدة ”الإخوان المسلمين” اليومية، بمناسبة مرور عشرين عاما على تأسيس دعوة الإخوان، ولحظ قائمة الإنتاج الثقافي والعلمي لدى الجماعة، وجدها متواضعة جدا، بالنظر إلى جماعة واسعة الانتشار كالإخوان..))[1]
وعلى الرغم من وجود هذا الوعي القديم، فإن الحركات الإسلامية عموما انشغلت بالمدافعة السياسية، وأغفلت تأطير أفرادها داخل الجماعة في مجال العلم الشرعي، وتركت هذا الميدان للجهود الفردية الخاصة التي يقوم بها بعض العلماء الأحرار، أو للمعاهد والجامعات التابعة لمؤسسات الدولة.
وإذا علمت أن الجهود الفردية قد تثمر حينا، وقد يلحقها الجفاف واليبس في أحيان أخرى؛ وأن الجامعات التابعة للدولة قد لحقها التدمير المنهجي المتلاحق؛ ظهر لك مقدار الضيم الواقع على أبناء الحركة الإسلامية، حين تخلت هذه الحركة عن واجبها التعليمي، لأجل السياسة.
· مقترحات لإصلاح الاعوجاج، وتصحيح الانحراف.
إن هذا الخلل يحتاج إلى تصحيح وإصلاح، كما سبق بيانه. ويكون ذلك على محاور مختلفة.
المحور الأول: تحكيم الشريعة
لقد جاء في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية الصحيحة، عدد كبير من الأدلة والبراهين على وجوب تحكيم شريعة رب العالمين، التي أنزلها على نبيه الأمين محمد صلى الله عليه وسلم.
بل إن القضية كانت إلى زمن قريب من البدهيات التي لا يختلف فيها اثنان من المسلمين، إلا أن شياطين الإنس زينوا للمسلمين الفصام بين العبادة الفردية والجماعية، وسوغوا تنحية الشريعة عن الحكم في الأنفس والأموال، وفي الأفراد والجماعات، وفي الاقتصاد والقضاء والسياسة.
وقد ساعد على ذلك جو الهزيمة العسكرية والسياسية للمسلمين أمام دول الغرب الاستعمارية، مما أدى إلى هزيمة فكرية وحضارية، اتبع فيها المغلوبُ الغالب، بل اجتهد في النسج على منواله حتى فاقه في التطبيق العملي لنظرياته الكاسدة[2]!
إن مفهوم العبادة في الإسلام أعم وأشمل من المفهوم الغربي الذي يحصرها في الطقوس الفردية، التي يتقرب بها الشخص إلى ربه سبحانه. ومن هذا الشمول، ينشأ التلازم الضروري بين الالتزام بالإسلام دينا والدخول في زمرة المسلمين، وبين الرضا بحكم الشرع، والسعي لتحكيم شريعة رب العالمين.
إن في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) بيانا واضحا لهذا التلازم، وخطورة التحاكم لغير شرع الله، مع ادعاء الإيمان بالكتب السماوية المنزلة على خيار الخلق.
إن المفهوم الإسلامي للربوبية يناقض المفاهيم الغربية المستوردة، ويمنع التنازل عن بعض أوجه ربوبية الله سبحانه لحساب الأخرى.
(ألا له الخلق والأمر): فهو الخالق سبحانه، وهو أيضا صاحب الأمر الكوني والشرعي، ولا وجه لإلغاء بعض هذه المعاني القرآنية الواضحة.
إن تتبع الأدلة من الوحيين على وجوب تحكيم الشريعة الإلهية، يحتاج إلى بسط كثير لا يتسع له هذا المقام. على أن المنتسبين للحركات الإسلامية لا ينازعون – من الناحية النظرية – في هذا المعنى، ولا يختلفون حوله. ألم تقم هذه الحركات في الأصل لأجل هذه الغاية – كما سبق لنا بيانه؟
نحن نحتاج فقط إلى التذكير بهذه الغاية، وحث الإسلاميين على وضعها في برامجهم، واستحضارها عند إعداد أهدافهم المرحلية.
إن تحكيم الشريعة ينبغي أن يكون طلبا محوريا، عليه تدور المطالب الأخرى جميعها، وإلا صارت هذه الحركات إسلاميةً في الاسم دون المسمى، وفي الشعار دون المضمون. ولن تكون حينئذ أفضل حالا من التيارات الوطنية أو القومية النزيهة، التي تلتقي معها في كثير من المطالب الجزئية.
المحور الثاني: ضوابط الممارسة السياسية
هذا عنوان عريض جدا، ويحتمل توضيحه مجلدا ضخما، فإن الممارسة السياسية العصرية ظهرت في بلاد الغرب، التي تجعل الطبقةُ السياسية فيه المكيافيليةَ شعارا، والفكرَ المادي النفعي دثارا، وتحرص على التملص من كل ضبط قيمي، أو تقييد أخلاقي.
فكان من الطبيعي إذن أن تنشأ الممارسة السياسية في بلداننا على هذا النمط الغربي القاتم.
وكان من اللازم إذن أن يحرص الإسلاميون عند ارتمائهم في أحضان هذه الممارسة، على أن يضعوا القيود الصارمة، ليكون عملهم أقرب ما يكون لحكم الشرع.
ولست أدعي أنهم لم يفعلوا ذلك، ولكنني أزعم أنهم وضعوا مبادئ عامة جدا، ولم يدخلوا في التفصيلات الدقيقة، فتكفلَ تعاقبُ السنين بتحريف تلك المبادئ أو طمسها، وأوصلهم التطورُ التاريخي إلى انحرافات خطيرة ينبغي تداركها.
إن النفاق السياسي – كما يسميه دهاقنة الفكر السياسي الغربي – ليس ملائما، ولا يمكن أن يكون ملائما للفقه السياسي الإسلامي. فلا يمكن القول بإباحة ممارسته مطلقا، ولو بحثا عن تحقيق مصلحة معتبرة. ثم هو – فوق كونه مخالفا للشرع – مفسدٌ للجو السياسي بأسره، ومحطم لشعبية الحركات التي تمارسه، بل إنه مفسد لدين الأتباع قبل غيرهم!
إن الجهر بالحق فضيلة إنسانية حض الإسلام عليها، ونهجها أكابر العلماء والصالحين من هذه الأمة.
وبزئير الأسود لا بروغان الثعالب: تتأسس الدول، وتقوم الأمم.
أما حين لا يمكن الجهر بالحق، فلا بأس بالسكوت إلى حين. ولكن البأس كل البأس في قول الباطل بدعوى عدم إمكان قول الحق!
المحور الثالث: استحضار عقيدة الولاء والبراء
بهذين الجناحين يطير المسلم العارف بعقيدته عند تعامله مع فئات المجتمع المختلفة المحيطة به. وبهذين المبدأين العظيمين يحصل لأمة الإسلام التلاحم والارتباط مع التمايز والمفاصلة، بل بمثلهما يحصل لكل جماعة تحمل فكرا أن تتميز عن غيرها، مع التماسك بين أفرادها.
فإذا فقد أحد هذين، تميعت الأمة، ودخل فيها من ليس منها؛ بل صار الانتساب لها قضية هوى في النفس، أومصلحة في الواقع، لا قضية فكر ومعتقد!
إن المجتمع الإسلامي يقوم على عقيدة الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من أعداء الله ورسوله، ومن المتبع لغير سبيل المؤمنين. وأدلة هذه العقيدة الجليلة من القرآن والسنة أكثر من أن تحصى. فمن ذلك قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)، وقوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير)، وقوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم)، وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا).
وفي السنة النبوية من معاني التأكيد على المحبة والولاء القلبي بين المؤمنين، والحض على النصرة وولاء التأييد بينهم، الشيءُ الكثير الطيب.
ويعجبني في هذا المقام قول العلامة أبي الوفاء بن عقيل رحمه الله: (إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة ..)[3]
ثم إن هذا الولاء والبراء على درجات متفاوتة، كما يفصله أهل العقائد، ولا مجال لبسط ذلك هنا.
والمقصود أنه يجب على الحركات الإسلامية أن تراعي هذا الأصل العظيم في تعاملها الدعوي والسياسي.
فيجب استحضار العداوة الأبدية التي عقدها الله تعالى بين أهل الإسلام وأهل الكفران، وبدرجة أقل مع الطوائف البدعية المخالفة للمعتقد النقي.
وبالمقابل، فإن المتعين استحضار معنى قوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) عند إنكار أخطاء المخالفين داخل الصف الإسلامي. فلا ينبغي أن يصل الإنكار إلى درجة التخوين والاحتقار والبراءة، في مسائل اجتهادية، يسعهم أجمعين الخلاف فيها.
المحور الرابع: تنويع وسائل التغيير
لقد وقعت الحركات الإسلامية المعاصرة في مزلق خطير، أدى إلى اضمحلال جوانب فكرية كثيرة، كانت هذه الحركات تعتني بها اعتناء بالغا في مراحل نشأتها. ويمكن اختصار هذا المزلق في حصر وسائل التغيير المنشود كلها في وسيلة واحدة هي: المشاركة السياسية بالمعنى الانتخابي الديمقراطي البحت.
لقد كان الإسلاميون الأوائل يشعرون بأن الديمقراطية نظام دخيل على الأمة الإسلامية، ويتعارض مع أصول شرعية كثيرة. ثم ظهر لكثير من الإسلاميين رجحان المشاركة في اللعبة الديمقراطية لاعتبارات متعلقة بالمصالح المتوقعة من وراء تلك المشاركة، دون أن يتغير الرفض المبدئي لهذه الفلسفة السياسية الدخيلة على الإسلام وأهله.
وبعد مرور زمن معين، قلّت حدة هذا الرفض، خاصة حين صار الإسلاميون بين خيارين لا ثالث لهما – فيما يحسبون: النظام الديمقراطي أو الدكتاتوري. والاختيار في مثل هذه الحالة واضح لا لبس فيه !
وانغمس الإسلاميون في اللعبة الديمقراطية، وهي لعبة قاتلة: تستغرق الأعمار، وتستنزف الجهود، وتحلق الدين.
وبقطع النظر عن مشروعية المشاركة السياسية بهذا المعنى، فإن التعويل التام على الديمقراطية أثبت محدوديته في تحقيق التغيير الشامل، وإيصال المنهج الإسلامي لسدة الحكم. وذلك لأن الديمقراطية المطبقة في البلاد الإسلامية، لا يمكن أن تخلو من إحدى صورتين:
الصورة الأولى: أن تكون مزورة مصطنعة، ليس لها من حقيقة الديمقراطية سوى الاسم والشعار. وحينئذ، يكون فوز الحركات الإسلامية في صناديق الاقتراع رابع المستحيلات.
والصورة الثانية: أن تكون حرة نزيهة، وحينئذ فإن فوز الإسلاميين ممكن، ولكنه لا يكون إلا بعد أن يقبلوا – شعارا وتطبيقا – بالمبادئ العلمانية التي تقوم عليها فلسفة الديمقراطية، ويظهروا حسن نيتهم في الالتزام بأصول اللعبة، كما يقال.
فما الذي يبقى من الدين بعد ذلك؟
بل حتى مع التنازل عن المبادئ الشرعية، والقبول بالأصول الفلسفية للعبة الديمقراطية، فإن عقود التشويه المنهجي لفكر الإسلامي السياسي، وسنوات بث الشبهات الخداعة والشهوات القتالة، جعلت الشعوب متذبذبة المقاصد، مشروخة الآمال الواقعية، مضطربة المبادئ الفكرية. وهي بذلك صارت قليلة الاستعداد للتفاعل الإيجابي البنّاء مع المشروع الإسلامي الناهض، والتضحية بالفتات الدنيوي المبذول لها في أغلفة براقة خادعة، من أجل إحياء مجد الأمة الداثر.
لقد أثبتت التجارب الانتخابية الأخيرة خلال هذه السنة أن توقع الاكتساح الانتخابي الإسلامي في أية انتخابات نزيهة، صار وهما من الأوهام، وأن الانتصارات الانتخابية المحدودة والهشة، لا توازي التنازلات الفكرية الضخمة التي قدمها الإسلاميون قربانا على مذبح الديمقراطية [4]!
لقد طال التفريط في الوسائل الأصيلة لحساب هذه الوسيلة الهجينة، وآن الأوان لتدارك الأخطاء، ومحاولة إصلاح هذا الخلل الخطير.
وإن من أعظم هذه الوسائل الأصيلة المهجورة – إلا من بعض الأفذاذ من الناس-: الدعوةُ الكثيفة المنظمة – فردية كانت أو جماعية – المستنيرة بمصابيح العلم الشرعي السابغ، والمتجاوبة مع آمال الناس وآلامهم. ويكون هدفها الأسمى: بناء وعي جماهيري ضاف بأهمية الغايات الإسلامية الكبرى، وفي مقدمتها: تحكيم الشريعة.
والله الموفق.
الهوامش :
[1] ) ابن القرية والكتاب (1/298).
[2] ) لا نحتاج إلى التذكير بأن المراد بالشريعة معناها العام الذي يشمل كل تحليل وتحريم مرجعه نصوص الوحي، ولا نقصد المعنى الضيق الذي يفهمه الغربيون وأذنابهم، وهو تطبيق الحدود الجنائية.
[3] ) الآداب الشرعية لابن مفلح: 1/255.
[4] ) لا يشكل على هذا ما وقع في بعض البلاد بعد ثورات ”الربيع العربي”، فإن الذين وصلوا للحكم هم الإسلاميون من حيث هم أشخاص أو أحزاب. أما المنهج الإسلامي الذي قامت لأجله هذه الحركات فلا يزال مغيّبا، لا يجرؤ الواحد منهم على التلفظ باسمه فضلا عن التصريح بالدعوة لإقامته!