أدلة وجود الله (3).. برهان ”أنسلم” - للشيخ اللغوي عصام البشير
أدلة وجود الله (3).. برهان ”أنسلم” - للشيخ اللغوي عصام البشير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
من أدلة وجود الله المشهورة في تاريخ الصراع بين الديانات والإلحاد: برهان أنسلم، نسبة إلى الراهب النصراني المعروف بـ”القديس أنسلم Anselm of Canterbury ”، المتوفى سنة 1109 لميلاد المسيح عليه السلام.
وسأعرض في هذا المقال مختصراً لهذا الدليل ولبعض الأجوبة عليه، مع التنبيه على أن علماء الإسلام في استدلالهم على وجود الله، لا يسلكون هذه الطرق لما قد يعتريها من الإشكالات المنطقية. وسيأتينا في مقالات لاحقة إن شاء الله، ذكر بعض الأدلة التي اعتمدها علماء الإسلام، لموافقتها لنصوص الوحي، مع ثبوتها في نفسها.
ولكن لا يمكن للمستدل على وجود الله أن يغفل هذا الدليل لمكانته التاريخية وشهرته بين الأدلة الأخرى، ولأنني ارتأيت ذكر أدلة مختلفة في قوتها ومنهجها، نظرا لاختلاف أصناف الملحدين وتوجهاتهم الفكرية ومؤهلاتهم الذهنية، كما سبق لي التنبيه عليه.
عرض الدليل الأنسلمي
يقوم هذا الدليل على مجموعة من الأفكار:
أولها: حين نتفكر في الله فإننا نتصور أعظم شيء، ذلك الشيء الذي بلغ درجة الكمال المطلق، بحيث لا يمكن تصور ما هو أعظم منه. ويمكن التعبير عن هذا بصيغة أخرى، هي: إذا تصوّرت شيئاً، ثم أمكنك أن تتصور في ذهنك ما هو أفضل وأكمل منه، فهذا الذي تصوّرته أولا، ليس هو الله! فتصوّر الكمال المطلق لله جزء من تصور وجود الله.
وهذه الفكرة محورية في الدليل الأنسلمي، ويجعلها من البدهيات التي لا تحتاج إلى نقاش.
الثانية: التفريق بين الوجود الذهني والتحقّق الخارجي. أي أن هنالك أشياء يمكن تصورها في الأذهان، مع أنها قد تكون موجودة في الخارج وقد لا تكون موجودة. بل قد تكون مستحيلة الوجود في الخارج مع أن الذهن يتصوّرها.
مثال ذلك: يمكن للذهن أن يتصور – دون صعوبة – مخلوقاً خرافياً، له رأس بشري وجسم حصان وجناحا طائر، مع أن هذا الكائن غير موجود في حقيقة الأمر!
كما أن الذهن يتصوّر أشياء كثيرة هي موجودةٌ حقاً، أو كانت موجودة من قبل، كتصوّرنا لذواتنا، أو لذوات أسلافنا من عظماء التاريخ!
فدائرة الوجود الذهني – إذن – أكبر وأعمّ من دائرة الوجود الخارجي.
وهذه فكرة واضحة لا إشكال فيها.
الثالثة: الأشياء الموجودة في الذهن مع كونها غير موجودة في الواقع، ستكون أكمل لو كانت موجودة في الواقع أيضا!
ويتضح هذا بمثالين:
المثال الأول: نتصور في أذهاننا – تبعاً لما نطالعه في الروايات أو يشاهده بعضنا في الأشرطة السينمائية – ”المخلوق” الذي يسمى مصاص الدماء ” vampire ”. ولا شك أنه ”مخلوق” مرعب. ولكن ألا يكون أكثر إفزاعا لو علمنا أنه موجود في الواقع أيضا؟ لا ريب أن الخوف من هذا الكائن حال علمنا بوجوده يكون أعظم بكثير من الخوف الحاصل منه حال كونه اختراعا روائيا لا حقيقة له!
المثال الثاني: يتصوّر أطفال الغربيين – ومن تبعهم من بني جلدتنا المفتونين بالثقافة الغربية – ”المخلوق” المسمّى ”سانتا كلوزSanta Claus ”. وهو كائن لطيف بلغ من الطيبوبة مبلغا عظيما! لكن لو أنه كان موجودا في الواقع، لكانت طيبوبته أعظم وأكمل، إذ سيكون لنا بها انتفاع فعلي لا مجرد خيالات لا حقيقة لها.
فتبين لنا إذن: أن الشيء الموجود في الذهن لا في الخارج، كان سيكون أكمل لو أنه وجد في الذهن والخارج معا!
الرابعة: لو طبقنا ما سبق بيانه في الفكرة الثالثة على وجود الله، لقلنا:
لو فرضنا أن الله موجود في أذهان المؤمنين فقط لا في الواقع، فإنه سيكون أعظم وأكمل في حالة ما لو وجد في الذهن والواقع معا.
فنحن في هذه الحالة، نتصوّر إمكانَ كونِه أعظمُ وأكمل. وهذا يتعارض مع ما تقرر في الفكرة الأولى. فقد سبق أن قلنا إن الله لا يمكن تصور ما هو أعظم أو أكمل منه!
فينتج إذن أن الفرض الأصلي – وهو كونه موجودا في الذهن فقط – خطأٌ، لأنه أفضى إلى مناقضة الفكرة البدهية الأولى.
ويلزم من هذا: أنه موجود في الذهن والخارج معا. وهو المطلوب.
نقد برهان أنسلم
لا شك أن البرهان الأنسيلمي لم يسلم من انتقادات كثيرة، تتابع عليها فلاسفة غربيون بيّنوا فيها مكامن الخلل فيه من اعتبارات مختلفة.
وقد يكون الخلل الأساسي في هذا البرهان: أنه مبنيٌّ على أن مجرد التصور الفكري يكفي للاستدلال على الوجود الواقعي!
وتعميم هذا البرهان يقتضي إمكانية البرهنة على وجود ألوان مختلفة من الأشياء شديدة الغرابة، لا لشيء إلا لأن العقل يمكنه تصورها!
وقد كان هذا من الانتقادات التي وجهت للبرهان منذ صدوره، من طرف الراهب ”جونيلو” المعاصر لأنسلم.
وقد يجاب عن هذا بأن الذهن لا يمكنه تصوّر الكمال المطلق إلا في حق الله تعالى. ولا يمكن للإنسان أن يُجبر ذهنه على تصوّر كمالٍ مطلقٍ في حق غيره. ولو حصل وأمكن تصور ذلك، فالشخص يتصوّر الكمال الإلهي في حقيقة الأمر!
ومن النقد الموجّه للبرهان الأنسلمي أيضا، أنه يخاطب من يؤمن بوجود الله أو يتصوّره في ذهنه على الأقل، وليس موجها للملحد الذي لا يقر بوجود الله أصلا.
فهذا الملحد يمكنه أن يقول: ” أنا لا أقرّ بوجود الله في الواقع، ولا أقر بوجوده حتى في ذهني! فإذا لم أومن بوجوده، فأنا لا أتصوّره أصلا بصفات الكمال التي يزعمها المؤمنون ”.
وقد يجاب بأن في هذا النقد بعض النظر. فالتصور الذهني منفك عن الإيمان بالوجود الفعلي. وادعاء عدم القدرة على التصور الذهني: مكابرة.
وعلى فرض صحّة هذا النقد، فيمكننا أن نقول: إن الدليل يجب تكميله بما تقتضيه الفطرة الإيمانية التي لا تفارق قلب الإنسان، والتي تجعله يتصوّر وجود الله على الأقل، إن لم يؤمن بوجوده فعليا. ولا شك أن الظرف التاريخي الذي وُجد فيه هذا الدليل، له تأثيرٌ واضحٌ في طريقة صياغته. فالإلحاد في تلك الأزمنة كان ساذجاً، ولا يتعدّى بعض التشكيكات العقلية، التي لا تمحو الفطرة ولا تجتثُّ جذورَها من القلب.
أما في زمننا، فإن للإلحاد أوجهًا أخرى تحتاج إلى أدلة أقوى وأرسخ.
وهذا ما سنبسطه – إن شاء الله – في المقالات القادمة.
د. البشير عصام المراكشي